الاستغراق في الصراع السياسي يرهن الاقتصاد للإصلاحات والحلول المعلبة المفروضة من الخارج.
المديح الداخلي والخارجي للاستثناء التونسي في الديمقراطية يخفي مخاطر هذا النموذج الذي يلغي رؤية جامعة للملفات الاقتصادية والاجتماعية الحارقة التي تنتظر منذ 2011 ويركز فقط على الانتقال الديمقراطي بما هو صراع سياسي لا يتوقف لخلق نموذج مستقر، وهو أمر صعب بسبب نظام انتخابي أعرج وضع، بقصد، لإغراق البلاد في لعبة سياسية مغلقة ودائمة تغفل إصلاح الاقتصاد وتحقيق مطالب الثورة في إحداث تغييرات جذرية. هذه الدوامة ترهن الاقتصاد للحلول المعلبة القادمة من الخارج.
ينظر إلى تونس، وعلى نطاق واسع عربيا ودوليا، على أنها استثناء في محيط تسيطر عليه الدكتاتورية والعشيرة. لكن هذا الاستثناء قد ينزلق إلى ملعب آخر، وهو ملعب التفتيت والاستغراق في المكاسب السياسية على حساب مفهوم الدولة ومجالات تحركها التقليدية في دولة محدودة الحلول، وفي ظل طبقة سياسية طارئة غارقة في أحلام التغيير الشعبوية وشيوع الفساد والتهريب.
ويتجه هذا الاستثناء لوضع تونس كأول دولة وفية لنموذج النيوليبرالية التي ترنو إلى تذويب الدولة القطرية التقليدية والتشجيع على دولة وطنية تنظر إلى السيادة كمفهوم شكلاني يقف عند إدارة السلطة وتنظيم الخلاف داخلها في مقابل انفتاح تام على العولمة وفتح البلاد أمام الشركات الدولية الكبرى، والاستثمارات العابرة وما يرتبط بها من تبييض أموال وتهرب ضريبي، فضلا عن ربط الاقتصاد المحلي الهش بأدوات الاحتكار الدولية، أي الصناديق المالية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وبات واضحا أن هناك توجها مُعوْلما يتم التسويق له وإغواء القيادات الصاعدة للثورات، أو الانتقالات المفروضة خارجيا، بجاذبيته، وهو النظام البرلماني الذي تم تعديله بطريقة تجعل من استقرار السلطة أمرا مستحيلا. وتمت تجربته في العراق وتونس، ويجري التسويق له كبديل جذاب لحل أزمات السودان العرقية والإثنية. وقد يصار إلى تبنيه في اليمن بعد صراعات طائفية دامية مخلوطة بتدخلات خارجية وظيفية تجعل اليمنيين يقبلون في الأخير بنموذج تفتيتي بعناوين براقة مثل الفيدرالية ونظام الأقاليم.
محاذير الشعبوية
لم تخرج الطبقة السياسية في تونس منذ انتخابات أكتوبر 2011، واستلام الترويكا الحكم من دائرة الصراع بين الأحزاب والكتل البرلمانية حول القيادة والاستئثار بالقرار، وهو صراع تحول إلى دوامة لا يمكنها أن تتوقف.
وبات الوضع بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة مرشحا للانفجار في ظل تشظي التوازنات داخل البرلمان وصعود الرئيس قيس سعيد الذي يرسل خطابه ومواقف الذين قادوا حملته الانتخابية إشارات قوية إلى أن الرجل سيصب الزيت على نار الصراعات بسبب نزوع شعبوي حالم لتغيير نظام الحكم قد يؤدي إلى وجه جديد من الصراع، وهو صراع مؤسسات الحكم على الشرعية وتوظيف الشارع في حسمه، وما قد يوفره من مناخ للفوضى.
وينتظر التونسيون الخطاب الأول لقيس سعيد في الثالث والعشرين من أكتوبر بعد أداء اليمين أمام البرلمان الجديد، وما يحمله من أفكار، وهل سيعيد طرح الفكرة المحورية التي سيطرت على حملته الانتخابية، وهي أولوية تغيير شكل نظام الحكم من المفهوم الكلاسيكي الذي يقره الدستور إلى ديمقراطية شعبية تهدف إلى انتخاب مجالس محلية بمنأى عن المجالس المنتخبة في مايو 2018، وبناء مجلس شعبي أو برلمان عبر انتخابات داخل تلك المجالس على مستوى المحافظات (الولايات)، ما يعني تصعيد نواب مهمومين بالشأن المحلي ويمكن أن تتحكم في البرلمان الجديد لوبيات محلية صغيرة الأهداف والمطامع بدل “الحيتان الكبرى” التي تقف وراء النواب في البرلمان التقليدي.
لكن محاذير هذه المقاربة الشعبوية في الحكم كثيرة، وبينها تصعيد شخصيات محدودة الكفاءة وسهولة التأثير عليها، فضلا عن إعادة التأسيس للصراع المناطقي والعشائري من بوابة البرلمان بعد أن نجحت الدولة الوطنية في تذويبه لسنوات طويلة قبل أن يعود إلى الواجهة بعد ثورة 2011 بأشكال متعددة.
سيفرض هذا النظام المغري تحديات كبيرة أمام الطبقة السياسية التي تنظر إلى الرئيس التونسي الجديد بانبهار وتسعى لكسب وده والاستظلال بصداقته لإظهار أنها في “صف الثورة” ولا تقف في وجه المجموعات الشبابية التي أوصلته إلى السلطة.
وتبدي المجموعات البرلمانية الصاعدة مثل التيار الديمقراطي (وسط يسار) وحركة الشعب (ناصريون) وائتلاف الكرامة (يمين إسلامي) حماسة لدعم قيس سعيد لإظهار اصطفافها مع الثورة وتفادي تصنيفها ضمن الأحزاب التي يحمّلها التونسيون مسؤولية تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وعاقبوها في صناديق الاقتراع.
في المقابل تتخوف حركة النهضة من تغول قيس سعيد وشعبيته الكاسحة خاصة بعد موجة من التطوع التلقائي الشبابي في القيام بحملات نظافة، أو مقاطعة غلاء الأسعار، والدعوات لاستعادة قيمة العمل، في حركة رمزية عن “لحظة وعي” شعبية متفائلة بحصول تغييرات كبرى بعد انتخاب “الرجل النظيف” الذي يراد له “مقاومة الفساد” ومن ضمنه “فساد” الأحزاب التي فشلت في إدارة الشأن العام خلال ثماني سنوات.
القائد الملهم
أبانت الحملات عن نزوع قوي لاستعادة النظام الرئاسي الذي يفضي إلى حكم الزعيم أو القائد الملهم، وهو ما عكسه تحرك عدد من الشباب لوضع صور كبيرة لقيس سعيد في أماكن عامة في استعادة رمزية للاستقرار الذي عرفه حكم الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
لكن النهضة نفسها قد تجد في قيس سعيد مخلصا لها من ورطة تشكيل الحكومة الذي بات أمرا صعبا بسبب ميل الكتل الصاعدة إلى النأي عن الحركة وتجنب خسائر التحالف معها، فضلا عن تفضيل البقاء في صف المعارضة وتجنب مشاركة في الحكم قد تعصف بالمكاسب التي حققتها في البرلمان، وهو أمر مفهوم خاصة في ظل المناخ الشعبي المشحون ضد الأحزاب وافتقاد هذه المجموعات التجربة في الحكم وغياب البرامج.
وألقى سالم الأبيض، القيادي في حركة الشعب ووزير التربية في حكومة الترويكا، لحركة النهضة بقشة النجاة حين قال إن حركته على استعداد للمشاركة في حكومة يُشرف على تشكيلها قيس سعيد وليس النهضة، وهو ما يرفع الحرج عن النهضة ويفتح لها باب التخفي تحت جلباب قيس سعيد ويوفر لها مدخلا لتوافق جديد تحت يافطة “جبهة واسعة لمقاومة الفساد” يمكّنها من الحكم من وراء الستار وبمباركة من الرئيس الجديد، ويكسبها ود الشارع الشبابي الواسع الذي بات يناصبها العداء ويحملها مسؤولية الخيارات الفاشلة شأنها شأن أحزاب المنظومة القديمة.
لكن هذا المخرج المؤقت لن يعفي الحكومة القادمة من صراع مع الرئيس الجديد، فالنهضة ستفكر أن تناور من ورائه وتروضه كما فعلت مع الرئيس السابق منصف المرزوقي من قبله. لكن قيس سعيد المزهو بشعبيته الجارفة، والتي لم تكن بسبب جاذبيته الشخصية ولا جاذبية أفكاره ولكن عقابا لأحزاب الحكم السابقة وبينها النهضة، قد يلجأ إلى ورقة الشارع لفرض برنامجه ما يقود البلاد إلى حالة من الفوضى السياسية والاجتماعية تليها ولا شك فوضى أمنية.
ويجري الآن حديث عن وجود نية لتزكية الحكومة التي ستقودها النهضة سريعا حتى لا تتهم الكتل البرلمانية والأحزاب التي تقف وراءها بتعطيل المؤسسات، لكن بعد ذلك ستتم هرسلة الحكومة في البرلمان بأسلوب السنوات الثماني الماضية، أي تعطيل كل الدواليب لمدة خمس سنوات أخرى، بهدف تسجيل نقاط على النهضة.
إن النظام الانتخابي الأعرج الذي تم تمريره كأرضية تأسيسية للانتقال الديمقراطي أفضى بالنتيجة إلى تركيز الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة على صراعات التموقع داخل المؤسسات بعقلية الغنيمة. كما أن المعارضة بات دورها الرئيسي ليس مراقبة الأداء الحكومي أو الرئاسي أو البرلماني وإجبار الائتلاف الحاكم على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، ولكن قطع الطريق أمام أي إنجاز حكومي، وهو وإن كان سيقود إلى اهتزاز صورة أحزاب التحالف الحاكم ومعاقبتها، فقد أدى إلى احتجاز لحظة التطوير الاقتصادي عند نقطة الصفر، وفرض أيضا تصويتا عقابيا ضد المعارضة نفسها التي كانت العقوبات ضدها أشد وأفضت إلى ضربات قاسية ضد اليسار الذي كان محور المعارضة وقائد لعبة قطع الطريق.
ويضع هذا النظام أرضية واسعة للتفتيت خاصة بإعطاء أدوار أوسع للمجالس المحلية (البلدية) وتخفيف الرقابة المركزية، ما اعتبره وزير المالية الأسبق حسين الديماسي خيارا يزيد في تفكيك أصول الدولة المركزية.
وقال الديماسي في تصريحات له في 2018 لإذاعة شمس أف أم المحلية إن التوجه نحو اللامركزية سيُفتت السلطة وإن النظام الانتخابي أفرز حكومات ضعيفة غير قادرة على مجابهة التحديات الاقتصادية.
الاقتصاد المغيب
لم تفض ثماني سنوات من الحكم بعد ثورة 2011 إلى أي إصلاحات اقتصادية جدية، وعلى العكس فقد ترك السياسيون الباب مفتوحا أمام إصلاحات عشوائية متسارعة هدفها إرضاء الصناديق الدولية المانحة والحصول على شهادة حسن السيرة بما يسمح بالحصول على الأقساط المقررة من القروض، والتي لم تكن تذهب لتحسين تنافسية الاقتصاد ولا لخلق مواطن عمل جديدة. وكان أغلبها يذهب للزيادة في الرواتب التي فرضها الصراع السياسي الذي يخوضه اتحاد الشغل مع حكومات الإسلاميين سواء زمن الترويكا أو في مرحلة حكومات الوحدة الوطنية.
إن استنفاد مؤسسات الحكم لجهودها في الصراع السياسي سيعني آليا إحالة الملفات الاقتصادية على وجه الخصوص إلى دوائر أخرى بينها الوزراء التكنوقراط في الحكومة، والخبراء والمستشارون الاقتصاديون العاملون مع الحكومة أو في القطاع الخاص، والذين يدعم أغلبهم بشكل واضح خيار الإصلاحات المؤلمة التي تطالب بها الصناديق المالية الدولية، وخاصة ما تعلق بتقليص الدعم عن المواد الأساسية، وهو خيار تضررت منه الطبقة المتوسطة والفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة والتي تضم ملايين الناس.
وحصرت الحكومات السابقة دورها في القيام بإصلاحات اقتصادية شكلية لتحقيق مطالب الصناديق الخارجية، لكنها لم تضع الضمانات اللازمة لتطوير الأداء الاقتصادي المحلي بالشكل الذي يمنحه القوة للمنافسة وتحمل الإصلاحات المؤلمة التي باتت تصب في خدمة مصالح الوكلاء المحليين للشركات الدولية الكبرى، وساهمت في ضرب الاقتصاد الوطني ورهنه للمديونية التي باتت تمثل الثلثين من الناتج المحلي الخام.
وباتت الدولة التي أضعفتها دوامة الأزمات السياسية غائبة عن إدارة الملفات الحيوية، وستكون مضطرة إلى خصخصة القطاع العام وإن على مراحل، بالرغم من التأكيدات المستمرة على أن ذلك لن يتم تحسبا لردة فعل غاضبة لاتحاد العمال (الاتحاد العام التونسي للشغل) الذي يتحمل جزءا مباشرا في تعميق الأزمة بسبب المطلبية المرتفعة والإضرابات خاصة في القطاع العام، والتي أفضت إلى اتفاقيات مجحفة باتت تربك الموازنة العامة وتثقل كتلة الأجور.
وهو وضع ملائم لانفتاح عشوائي على العولمة بتعقيداتها الاقتصادية المختلفة، ما يجعل تونس مرشحة لأن تكون ملاذا للتهرب الضريبي وتبييض الأموال خاصة مع توسع التهريب وظهور بارونات وحيتان كبيرة باتت الحكومات عاجزة عن مواجهتهم ومنهم من صعد إلى البرلمان الجديد.
وكل هذه العناصر تعبد الطريق نحو تذويب الدولة بمفهومها الوطني السيادي التقليدي، وتفتح الأبواب المشرعة أمام العولمة المتوحشة التي نجحت دوليا في استباحة الدولة في فضائها الهوياتي بعد إذابة خصوصياتها الثقافية وعولمتها وفق مقاسات معلبة خادمة للشركات العالمية الكبرى.
وباتت الثقافة الاستهلاكية المعولمة تتحكم في صياغة الأنماط والخصوصيات الثقافية المحلية، وامتدت إلى الدين نفسه بصناعة أصولية عابرة خادمة لتمدد الرأسمالية ومصالح الشركات الكبرى. وكان لهذه الأصولية دور فعال في تحويل وجهة الثورات المحلية أو ما بات يعرف بثورات “الربيع العربي” من تغييرات اقتصادية واجتماعية راديكالية إلى صراع دام على الهوية واستدعاء الإرهاب المعولم والعابر كورقة مؤثرة في حرف مسار تلك الثورات.
مختار الدبابي
كاتب وصحافي تونسي