الصفحة 4 من 4
الاقتصاد المغيب
لم تفض ثماني سنوات من الحكم بعد ثورة 2011 إلى أي إصلاحات اقتصادية جدية، وعلى العكس فقد ترك السياسيون الباب مفتوحا أمام إصلاحات عشوائية متسارعة هدفها إرضاء الصناديق الدولية المانحة والحصول على شهادة حسن السيرة بما يسمح بالحصول على الأقساط المقررة من القروض، والتي لم تكن تذهب لتحسين تنافسية الاقتصاد ولا لخلق مواطن عمل جديدة. وكان أغلبها يذهب للزيادة في الرواتب التي فرضها الصراع السياسي الذي يخوضه اتحاد الشغل مع حكومات الإسلاميين سواء زمن الترويكا أو في مرحلة حكومات الوحدة الوطنية.
إن استنفاد مؤسسات الحكم لجهودها في الصراع السياسي سيعني آليا إحالة الملفات الاقتصادية على وجه الخصوص إلى دوائر أخرى بينها الوزراء التكنوقراط في الحكومة، والخبراء والمستشارون الاقتصاديون العاملون مع الحكومة أو في القطاع الخاص، والذين يدعم أغلبهم بشكل واضح خيار الإصلاحات المؤلمة التي تطالب بها الصناديق المالية الدولية، وخاصة ما تعلق بتقليص الدعم عن المواد الأساسية، وهو خيار تضررت منه الطبقة المتوسطة والفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة والتي تضم ملايين الناس.
وحصرت الحكومات السابقة دورها في القيام بإصلاحات اقتصادية شكلية لتحقيق مطالب الصناديق الخارجية، لكنها لم تضع الضمانات اللازمة لتطوير الأداء الاقتصادي المحلي بالشكل الذي يمنحه القوة للمنافسة وتحمل الإصلاحات المؤلمة التي باتت تصب في خدمة مصالح الوكلاء المحليين للشركات الدولية الكبرى، وساهمت في ضرب الاقتصاد الوطني ورهنه للمديونية التي باتت تمثل الثلثين من الناتج المحلي الخام.
وباتت الدولة التي أضعفتها دوامة الأزمات السياسية غائبة عن إدارة الملفات الحيوية، وستكون مضطرة إلى خصخصة القطاع العام وإن على مراحل، بالرغم من التأكيدات المستمرة على أن ذلك لن يتم تحسبا لردة فعل غاضبة لاتحاد العمال (الاتحاد العام التونسي للشغل) الذي يتحمل جزءا مباشرا في تعميق الأزمة بسبب المطلبية المرتفعة والإضرابات خاصة في القطاع العام، والتي أفضت إلى اتفاقيات مجحفة باتت تربك الموازنة العامة وتثقل كتلة الأجور.
وهو وضع ملائم لانفتاح عشوائي على العولمة بتعقيداتها الاقتصادية المختلفة، ما يجعل تونس مرشحة لأن تكون ملاذا للتهرب الضريبي وتبييض الأموال خاصة مع توسع التهريب وظهور بارونات وحيتان كبيرة باتت الحكومات عاجزة عن مواجهتهم ومنهم من صعد إلى البرلمان الجديد.
وكل هذه العناصر تعبد الطريق نحو تذويب الدولة بمفهومها الوطني السيادي التقليدي، وتفتح الأبواب المشرعة أمام العولمة المتوحشة التي نجحت دوليا في استباحة الدولة في فضائها الهوياتي بعد إذابة خصوصياتها الثقافية وعولمتها وفق مقاسات معلبة خادمة للشركات العالمية الكبرى.
وباتت الثقافة الاستهلاكية المعولمة تتحكم في صياغة الأنماط والخصوصيات الثقافية المحلية، وامتدت إلى الدين نفسه بصناعة أصولية عابرة خادمة لتمدد الرأسمالية ومصالح الشركات الكبرى. وكان لهذه الأصولية دور فعال في تحويل وجهة الثورات المحلية أو ما بات يعرف بثورات “الربيع العربي” من تغييرات اقتصادية واجتماعية راديكالية إلى صراع دام على الهوية واستدعاء الإرهاب المعولم والعابر كورقة مؤثرة في حرف مسار تلك الثورات.
مختار الدبابي
كاتب وصحافي تونسي