يوم العاشر من محرّم، أو "عاشوراء"، ليس مجرّد تاريخ هجري عابر... بل هو مرآة عميقة تعكس تنوعًا مذهلًا في المعتقدات والتقاليد الدينية والطقوس الشعبية. فما الذي يجعل هذا اليوم متأصلًا في ذاكرة البشرية بهذا الشكل؟ ولماذا يختلف معناه بين مذهب وآخر، وبين دين وآخر؟
✡️ عند اليهود: نجاة موسى وصيام شكر
في النصوص اليهودية، يُعتقد أن يوم عاشوراء يتزامن مع نجاة النبي موسى من فرعون، حين شقّ الله له البحر.
ويُعرف هذا اليوم في التراث العبري باسم "يوم كيبور" (يوم الغفران) وهو أقدس أيام السنة اليهودية، يُصام فيه 25 ساعة متواصلة ويخصص للتوبة والصلاة.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن الرسول محمد (ﷺ) لما قدم إلى المدينة ووجد اليهود يصومون هذا اليوم، قال: "نحن أحقّ بموسى منهم"، فصامه وأمر المسلمين بصيامه قبل أن يُفرض صيام رمضان لاحقًا.
☪️ عند المسلمين السنّة: صيام وتوسعة
في المذهب السنّي، يُنظر إلى عاشوراء كيوم صيام مستحب، اقتداءً بسنة النبي ﷺ، وشكرًا لله على نجاة موسى.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل صيامه، منها: "صيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله".
إضافة إلى الصوم، تنتشر عادة "التوسعة على الأهل" في هذا اليوم، حيث يُروى أن من وسّع على عياله في عاشوراء، وسّع الله عليه سائر سنته.
🩸 عند الشيعة: الحزن السرمدي ومأساة كربلاء
أما في المذهب الشيعي، فإن عاشوراء هو اليوم المفجع الذي قُتل فيه الإمام الحسين بن علي، حفيد النبي ﷺ، في واقعة كربلاء سنة 61 هـ، مع أهل بيته وأنصاره، بعد حصار وقتال دامٍ ضد جيش يزيد بن معاوية.
ويُعتبر هذا اليوم رمزًا للثورة ضد الظلم، وتُقام فيه شعائر الحزن والمواساة، ومنها المسيرات العاشورائية، ومجالس العزاء، واللطميات، بل وحتى طقوس ضرب الجسد، التي تثير جدلًا واسعًا بين من يراها طقوسًا تعبيرية مشروعة، ومن يرفضها.
🕊️ عند الصوفية: بين البكاء والرجاء
في الطرق الصوفية، يُخلّد يوم عاشوراء كـ"يوم تجلٍّ إلهي"، فيه أحداث عظيمة يقال إنها وقعت في هذا اليوم: نجاة إبراهيم من النار، ورفع عيسى إلى السماء، وخروج نوح من السفينة.
وتُقام في بعض الزوايا مجالس ذكر وتواشيح، ويُصام اليوم مع نية الاستغفار والتقرب إلى الله، بعيدًا عن الطابع السياسي أو الحركي.
عاشوراء في تونس والمغرب العربي: بين القدر والدخان
في بلدان المغرب العربي، وخصوصًا تونس والجزائر والمغرب، أصبحت عاشوراء مزيجًا فريدًا من الدين والعادة.
🔸 تُطهى أطباق تقليدية أساسها الكسكسي بالحمص أو "البركوكش".
🔸 يُمنع أكل اللحم أحيانًا رمزيًا، كامتناع عن سفك الدم.
🔸 تُشعل النيران في الأحياء الشعبية، ويقفز الصغار فوقها وسط زغاريد وضحك... مشهد يبدو احتفاليًا لكنه يحمل في العمق طقوس تطهير أو استحضارًا لرمزية الفداء.
🔸 وتُقدّم الهدايا للأطفال ويُوزّع المال، ويُعتبر اليوم فرصة للتصدّق والتقرب إلى الله.
🧠 تعددية المعنى والرمزية
ما يثير الدهشة في عاشوراء هو قابليته العجيبة للتأويل:
هو يوم نجاة لدى البعض،
ويوم حزن لدى آخرين،
ويوم بركة وفرح في ثقافات أخرى.
إنه باختصار: يوم تتقاطع فيه الدين بالتاريخ، والأسطورة بالعاطفة، والذاكرة الجماعية بالطقوس الفردية.
🌍 عاشوراء... حين تلتقي العقائد على اختلافها
رغم الفروقات العقائدية والمذهبية، يبقى عاشوراء دليلًا حيًّا على أن الرموز الدينية يمكن أن تتخذ مسارات متعددة في الوجدان الإنساني، وتُعبّر عن مشاعر كونية: الظلم، الفداء، التوبة، والخلود.
في العاشر من محرّم... نفتح كتب التاريخ، ونغلق أبواب الخلاف، لنتأمل ما تبقّى من إنسانيتنا في مرآة الحسين، وموسى، وعيسى، وكل من قال لا في وجه الطغيان.