في الوقت الذي تقدم فيه تونس باعتبارها إحدى أكثر الدول العربية تقدما في مجال حقوق المرأة يبرز في عمق المشهد الاجتماعي تناقض صارخ يتمثل في عدو خفي لا يأتي من خارج المنظومة بل من داخلها إذ يتجسد في صراع صامت بين النساء أنفسهن، هذا الصراع وإن بدا غير معلن يتخذ أشكالا متعددة تبدأ بالحسد والانتقاد والإقصاء ولا تنتهي عند الدفاع العلني عن سياسات وتشريعات من شأنها تقويض مكاسب تاريخية تحققت عبر عقود من النضال الحقوقي.
ولعل خطورة هذا العداء الداخلي لا تكمن في ضجيجه بل في أثره العميق والمستدام فهو لا يترك آثارا جسدية واضحه للكنه ينهك الثقة بالنفس ويضعف التضامن النسوي ويحول القوانين الحمائية إلى مجرد نصوص جامدة عاجزة عن النفاذ إلى الواقع الاجتماعي، ويتأكد هذا المعطى أكثر مع تصاعد حالات العنف ضد المرأة خلال سنة 2025 حيث تضاعفت الأرقام تقريبا مقارنة بالسنة السابقة ما يطرح بجدية سؤال العلاقة بين الإطار القانوني المتقدم والواقع اليومي المعاش.
ومن جهة أخرى لا يمكن الإنكار أبدا بأن الدولة التونسية قد أرست منظومة تشريعية متقدمة جدا في مجال حماية المرأة، فدستور الجمهورية التونسية لسنة 2022 ينص صراحة على المساواة بين المواطنين والمواطنات ويجرم التمييز والعنف بكافة أشكاله، كما شكلت مجلة الأحوال الشخصية منذ صدورها سنة 1956 منعطفا تاريخيا في العالم العربي من خلال تنظيم الزواج والطلاق والحضانة والميراث على أسس قانونية واضحة ومنع تعدد الزوجات وتجريمه بعقوبة سالبة للحرية، وإلى جانب ذلك جاء القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة ليوسع مفهوم العنف ليشمل الأبعاد الجسدية والنفسية والاقتصادية ويقر آليات حماية عملية مثل أوامر الحماية ومراكز الإيواء والإحاطة القانونية والاجتماعية، كما عززت تشريعات الشغل مبدأ تكافؤ الفرص ومنعت التمييز بسبب الحمل أو الوضع العائلي مع ضمان إجازة أمومة مدفوعة الأجر، بما يدعم الاستقلالية الاقتصادية للمرأة وتشير المعطيات الصادرة عن منظمات دولية متخصصة إلى أن نسبة كبيرة من الإطار القانوني التونسي موجهة فعلا نحو تكريس المساواة الجندرية ومكافحة العنف.
غير أن هذا التقدم التشريعي يصطدم بواقع اجتماعي مغاير حيث تكشف الإحصائيات عن ارتفاع ملحوظ في العنف النفسي واللفظي خلال سنة 2025 مقارنة بسنة 2024 وهو ما يدل على أن جزءا كبيرا من العنف الممارس اليوم هو عنف ناعم غير مرئي لكنه شديد الأثر، فهذا العنف يتجلى في ممارسات يومية تبدو في ظاهرها عادية مثل التشكيك المستمر والتنمر الاجتماعي ومحاصرة الاختيارات الشخصية، ووصم النساء الناجحات، ففي بيئات العمل تقوض مسارات بعض النساء لا بسبب ضعف الكفاءة بل بسبب نجاحهن نفسه وفي الإطار العائلي والاجتماعي تمارس رقابة صارمة باسم السمعة أو الفضيلة وغالبا ما تكون المرأة هي الأداة التي تفعل هذه الرقابة ضد امرأة أخرى.
وعلاوة على ذلك، فإن هذا العداء الصامت يفرغ مفهوم التمكين من محتواه لأنه يعيد إنتاج المنظومة الذكورية ذاتها ولكن بأدوات نسوية فينعكس ذلك سلبا على ثقة النساء بأنفسهن ويحد من مشاركتهن في الفضاء العام والمهني والسياسي، كما يتقاطع مع معطيات أخرى تتعلق بالهشاشة الاقتصادية خاصة في قطاعات تشغل نسبة كبيرة من النساء مثل قطاع النسيج والفلاحة حيث تفرض أجور متدنية وشروط عمل مجحفة.
وتتفاقم خطورة الظاهرة أكثر عندما تتحول بعض النساء إلى مدافعات صريحات عن التراجع التشريعي، فقد شهدت الساحة التونسية خلال سنة 2025 جدلا واسعا حول دعوات لتعديل مجلة الأحوال الشخصية وخاصة في ما يتعلق بإعادة السماح بتعدد الزوجات بدعوى معالجة مشكلات اجتماعية مثل الطلاق أو العنوسة أو بدعوى إنصاف الرجل الذي يصور أحيانا كضحية للقانون، واللافت أن هذه الدعوات لم تصدر فقط عن أطراف محافظة من الرجال بل وجدت صدى لدى بعض النساء اللواتي اعتبرن تلك المكاسب خروجا عن “الفطرة” أو “القيم الأصيلة” ودافعن عن التعدد باعتباره توافقا مع الشريعة ورفضا لما يصفنه بالانحلال الحديث.
وفي السياق ذاته، طال النقد قانون 58 لسنة 2017 حيث روجت بعض الأصوات النسائية لفكرة إساءة استخدامه ضد الرجال أو تعارضه مع التقاليد، كما دعت أخريات إلى إعادة ترسيخ مفاهيم الطاعة الأسرية وفرض قيود صارمة على حرية النساء مستندات إلى تأويلات دينية انتقائية أو إلى خطاب تربوي يبرر القمع باسم حماية الأخلاق، وهو خطاب لا يخفي حنينا واضحا إلى أنماط اجتماعية تقليدية تقصي المرأة من الفضاء العام وتختزل دورها في الطاعة والانضباط.
في المقابل، واجهت هذه الدعوات رفضا قويا من الجمعيات النسوية ومن قطاعات واسعة من المجتمع المدني التي اعتبرتها ارتدادا عن مكاسب تاريخية وعودة إلى منطق يعتبر المرأة ملكية لا ذاتا مستقلة، كما أكدت الجهات الرسمية وعلى رأسها وزارة المرأة في أكثر من مناسبة أنه لا تراجع عن مكتسبات النساء وأن مجلة الأحوال الشخصية تمثل ركنا أساسيا من هوية الدولة التونسية الحديثة رغم استمرار الجدل حول بعض المسائل المتصلة بالطلاق والنفقة وما يرافقه من مخاوف حقيقية من التفريط في إرث إصلاحي راكمته تونس منذ الاستقلال.
وأمام هذا الواقع المركب يتضح أن مواجهة ظاهرة العداء بين النساء لا يمكن أن تقتصر على المقاربة القانونية وحدها بل تستوجب تحوّلا ثقافيا عميقا يبدأ من التربية الأسرية والمدرسية ويمتد إلى الإعلام والمجتمع المدني من أجل تفكيك ثقافة المقارنة والإقصاء وتعزيز قيم التضامن والدعم المتبادل، وقد شهدت هذه السنة بالفعل إطلاق برامج مشتركة لمكافحة العنف الاقتصادي وتعزيز التمكين إلى جانب تطوير دور مراكز الإيواء التي باتت توفر تكوينا مهنيا للناجيات من العنف بهدف دعم استقلاليتهن الاقتصادية وإعادة إدماجهن اجتماعيا.
وتكشف التجربة التونسية في نهاية المطاف أن الدولة وفرت أدوات قانونية متقدمة غير أن فعاليتها تظل رهينة وعي مجتمعي قادر على تحويل النصوص إلى ممارسة يومية، فالمساواة الحقيقية لا تتحقق على الورق فقط بل في العلاقات الاجتماعية وفي نظرة المرأة إلى المرأة، وعندما تدرك النساء أن نجاح إحداهن لا يقصي الأخريات بل يعزز موقع الجميع يمكن عندها تجاوز العداء الصامت وتحويله إلى قوة دعم جماعية، ففي ذلك وحده تكمن إمكانية أن تصبح حقوق المرأة في تونس واقعا معيشا لا مجرد شعارات وأن يتحول التمكين من خطاب قانوني إلى حقيقة يومية راسخة.



