في سهرة استثنائية، احتفت الدورة التاسعة والخمسون من مهرجان قرطاج الدولي يوم الأحد 17 أوت 2025 بذكرى المخرج والكاتب المسرحي الكبير الفاضل الجزيري، الذي غادر الساحة الفنية في أوت الجاري عن عمر ناهز 77 سنة، بعد مسيرة إبداعية ثرية وضعت بصمتها العميقة في الثقافة التونسية والعربية.
عرض فيلم "ثلاثون": ذاكرة جماعية على الشاشة:
اختارت إدارة المهرجان تكريم روح الفاضل الجزيري بعرض فيلمه الوثائقي الروائي "ثلاثون"، الذي قدّم لأول مرة سنة 2008 ضمن أيام قرطاج السينمائية.
العمل الذي استغرق ست سنوات من البحث والكتابة مثّل شهادة سينمائية بليغة عن فترة الثلاثينات، تلك المرحلة التي شهدت مخاضا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا حاسما.
من خلال أسلوبه الفني المتفرّد، استعاد الجزيري ملامح جيل تحت السور، من علي الدوعاجي وأبي القاسم الشابي إلى الطاهر الحداد، ذلك الجيل الذي تمرّد على الجمود والرجعية وسعى إلى تأسيس مجتمع تونسي جديد يرفع راية الحرية والحداثة.
مسيرة إبداعية استثنائية:
ارتبط اسم الفاضل الجزيري على امتداد عقود بالمسرح والسينما والموسيقى.
و من الخشبة، قدّم أعمالا راسخة في الذاكرة الجماعية مثل "غسّالة النوادر" (1980) و"عرب"، ليمثّل أحد أبرز وجوه المسرح التونسي المعاصر بفضل حضوره الكاريزمي وتجديده للغة الركح.
وفي الموسيقى، أعاد الاعتبار للموروث الشعبي من خلال تجارب فارقة مثل "النوبة" (1991) و"الحضرة"(1993 و2018 و2022)، وصولا إلى عرضه الفرجوي الكبير "المحفل" الذي افتتح به مهرجان قرطاج سنة 2023.
أما السينما، فكان فيها مغامرا متمرّدا، يزاوج بين التوثيق والشعرية البصرية، كما في "ثلاثون" الذي حوّل الذاكرة الوطنية إلى مادة فنية نابضة بالحياة.
رحيل الجسد وبقاء الأثر:
عرف الجزيري المسرح منذ طفولته على مقاعد المدرسة الصادقية، ليتحوّل لاحقا إلى أحد أعمدته ورموزه. وفي رحيله، يبقى إرثه شاهدا على قوة الإبداع وقدرته على مقاومة النسيان. فقد اختار الفن سلاحا لمواجهة الرداءة والدفاع عن الذاكرة الجماعية، فصنع مسارا فنيّا متفرّدا ظلّ يزاوج بين الوفاء للموروث والبحث عن أشكال جديدة للتعبير.
قرطاج... ساحة الأوفياء:
تكريم مهرجان قرطاج لروح الفاضل الجزيري لم يكن مجرّد لحظة احتفاء عابرة، بل اعترافا بمسيرة مبدع جعل من الركح فضاء للشجاعة والحرية، فقد عرف الجزيري مسرح قرطاج حيّا، واعتلاه في أكثر من مناسبة، واليوم عاد إليه غائبا جسدا، حاضرا بروحه، يزيّن المكان ويذكّر الجميع بأن العظماء لا يرحلون، بل يخلّدهم الفن وتبقيهم الذاكرة حيّة بين الأجيال.
نادرة الفرشيشي