في خضم الأحداث الكبرى التي تعصف بالمنطقة العربية، يبرز سؤال جوهري: هل تسير الأمة نحو إعادة تشكيل ذاتها أم نحو انهيار متسارع؟ سقوط النظام السوري، الذي ظل لسنوات يمثل أحد أبرز أقطاب الصراع في الشرق الأوسط، يفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول مستقبل سوريا والمنطقة العربية بأسرها، من سيملأ هذا الفراغ؟ وهل هذا السقوط هو بداية بناء جديد أم خطوة أخرى نحو مزيد من التشظي والانهيار؟
مقالات ذات صلة:
فرنسا ترحب بسقوط نظام بشار الأسد وتدعو إلى وحدة سوريا عبر حل سياسي شامل
روسيا تساهم في إسقاط بشّار الأسد: نهاية حكم العائلة وبداية مرحلة جديدة في سوريا
المعارضة السورية تسيطر على دمشق: إسقاط نظام بشار الأسد
سوريا كانت ولا تزال ساحة صراع بين قوى متعددة الأطراف، داخليا وخارجيا؛ فمنذ بداية الأزمة تعددت القوى المتنازعة، وكل منها يحمل مشروعا خاصا يتجاوز حدود سوريا ليطال المنطقة بأسرها، اليوم ومع سقوط النظام، يبدو المشهد أكثر ضبابية، فمن الذي سيستلم السلطة في دمشق؟ هل ستكون جماعات متشددة تعمل تحت أجندات خارجية؟ أم قوى مدعومة من أطراف إقليمية ودولية تسعى لتحقيق مصالحها؟
إن انهيار نظام مركزي في دولة كبرى كمثل سوريا يعني فتح الأبواب أمام فوضى جديدة، قد تكون أكثر تعقيدا من سابقتها؛ ومع هذه الفوضى تتزايد المخاوف من عودة الجماعات المتطرفة، التي رغم الضربات التي تعرضت لها، لا تزال تمتلك القدرة على التكيف والعودة فتنظيم "داعش"، الذي ظن العالم أنه انتهى، قد يجد في هذا الفراغ فرصة للظهور مجددا مستغلا غياب الدولة وضعف المؤسسات.
كما وان المشهد العام للأمة العربية بات شديد الهشاشة، فاغلب الدول ممزقة بحروب أهلية، وأخرى تعيش تحت تهديد الإرهاب والتطرف، بينما تنشغل البقية في صراعات داخلية تغذيها أزمات اقتصادية واجتماعية، وفي ظل هذا الواقع يبدو أن المشروع الصهيوني "من النهر إلى البحر" يقترب من تحقيق أهدافه، مستغلا حالة التشرذم العربي وضعف الجبهة الداخلية.
ولكن الأخطر من ذلك هو غياب رؤية عربية موحدة للخروج من هذه الأزمات، فبالأمس كان واضحا من يواجه سوريا ومن يدعم أعداءها، أما اليوم فقد اختلطت الأوراق وأصبحت الصورة أكثر تعقيدا، فالقوى التي كانت تدعي دعمها لحقوق الشعوب باتت شريكة في تقسيمها والقوى التي كانت تدعي محاربة التطرف أصبحت تغذيه لتحقيق أجنداتها.
لا يمكننا أن ننسى في خضم هذه الازمة وضع تونس التي كانت ولا تزال مثالا استثنائيا في المنطقة تواجه تحديات مختلفة، فنجاحها في تحييد التطرف والإرهاب لم يكن وليد الصدفة بل نتيجة لوعي شعبي متجذر في قيم المدنية والاعتدال، ولكن هذا النجاح لا يعني أن الخطر قد زال، فالجماعات المتطرفة وإن تراجعت لا تزال تترقب الفرص، وسقوط دول جوار كبرى مثل سوريا قد يعيد هذه الجماعات إلى الواجهة مستغلة حالة الفوضى لنشر أيديولوجياتها.
ولتونس خصوصية فريدة، حيث كان لجيشها الوطني وأجهزتها الأمنية من شرطة وحرس وطني وأمن دور أساسي في تحصين البلاد من خطر الإرهاب والتطرف، فهؤلاء الرجال والنساء الذين يقفون في الصفوف الأمامية لحماية الوطن يستحقون منا أسمى عبارات الشكر والامتنان، فتضحياتهم اليومية ليست فقط درعا يحمي تونس من الأخطار بل هي أيضا رسالة أمل بأن الوحدة والعمل الجاد قادران على حماية الدولة من كل التحديات.
ولكن لابد من آخذ الحيطة لتجنب هذا المصير فعلى تونس أن تكون دائما متاهبة لكل محاولات الغدرمن الداخل قبل الخارج وتعزز مناعتها الداخلية بتطهيرها من جميع الخونة و المندسين و الالتفاف حول القائد الاعلى للقوات المسلحة سيادة رئيس الجمهورية قيس سعيد، كما وان الحل لا يكمن فقط في الإجراءات الأمنية بل في بناء مجتمع متماسك يقوم على العدالة الاجتماعية والتعليم والثقافة، ولا ننسى الدور الهام للشباب الذي كان دائما الهدف الأول للجماعات المتطرفة، اذ يجب أن يجد في بلاده فرصا حقيقية للعيش الكريم، بعيدا عن الإحباط واليأس الذي يدفعهم نحو التطرف.
علما وان ما حدث في العقد الأخير من ثورات وصراعات وإن حمل آمالا في بدايته إلا أنه كشف عن هشاشة البنية السياسية والاجتماعية في كثير من الدول العربية، واليوم ومع سقوط النظام السوري، يلوح في الأفق "ربيع" جديد لكنه قد يكون أكثر قسوة وتشددا، فالأطراف التي كانت تعمل في الظل باتت قادرة على الظهور علنا مستفيدة من ضعف الدول وتشرذم الشعوب.
وإذا لم تتدارك الأمة العربية نفسها بسرعة فإن ما تبقى من جسدها المتهالك قد يتحول إلى ساحة مفتوحة لصراعات لا تنتهي ابدا، فإعادة بناء الدولة الوطنية التي تقوم على الحقوق والواجبات بات ضرورة وجودية، فلا يمكن للأمة أن تنهض من جديد ما لم تستعد شعوبها الثقة في مؤسساتها وحكوماتها.
ولمنع عودة "داعش" وأمثالها لا بد من الالتفات إلى الأسباب التي أدت إلى ظهورها في المقام الأول من ذلك الفقر، الظلم، غياب العدالة، وتجاهل الشباب، كلها عوامل أساسية تغذي التطرف، والحل يكمن قبل كل شى في معالجة هذه الجذور وليس الاكتفاء بمواجهتها أمنيا.
وتونس بما تمتلكه من تجربة فريدة يمكن أن تكون نموذجا يحتذى به من تعزيز الديمقراطية الحقيقية، محاربة الفساد، وتوفير فرص العمل للشباب بالقول والفعل كلها خطوات أساسية لحماية البلاد، كذلك فإن التعاون الإقليمي والدولي لمكافحة الإرهاب يجب أن يكون مبنيا على احترام سيادة الدول والعمل المشترك بعيدا عن الأجندات الخفية.
لكن لا يمكن لتونس أن تواجه هذه التحديات دون دعم مؤسساتها الأمنية وجيشها الوطني الذين قدموا نموذجا يحتذى به في حماية البلاد من كل الأخطار، اذ إن الدور الذي لعبته القوات الأمنية التونسية في مواجهة الجماعات الإرهابية كان حاسما وأثبت ولازال أن الأمن هو ركيزة أساسية لاستقرار البلاد لذلك فإن دعم هذه المؤسسات وتطوير إمكانياتها يجب أن يكون أولوية وطنية.
اخيرا، ما يحدث اليوم في سوريا ليس مجرد حدث معزول بل جزء من مشهد أوسع يعبر عن أزمة وجودية تعيشها الأمة العربية، وسقوط الأنظمة ليس نهاية الطريق بل بداية لمسارات جديدة قد تكون أكثر شراسة؛ وإذا أرادت الشعوب العربية أن تنجو من هذا المصير فعليها أن تعيد بناء نفسها بعيدا عن الأوهام والصراعات الداخلية، فالأمل لا يزال ممكنا لكنه لن يتحقق إلا بإرادة جماعية تدرك أن المستقبل يبنى اليوم والٱن قبل فوات الاوٱن.
وفي قلب هذا المشهد، تبقى تونس مثالا حيا على أن الأمل ممكن شرط أن نحمي هذه التجربة بفضل وعي الشعب وتضحيات الجيش والأمن والشرطة الذين أثبتوا أن الوطن يبنى بالعمل والتكاتف وعلينا ان نحافظ على هذا النموذج ونعمل يد بيد من أجل مستقبل مشرق للأمة العربية.