اختر لغتك

من واقعية الموضوع إلى السرياليّة الرمزيّة في محفورات إبراهيم الضحاك

إنّ التمعّن في التجارب الحفريّة للضحّاك يؤكّد لنا واقعيّة منطلقاتها التي ارتبطت بإحياء التراث والأسطورة من ناحية، ومن التعبير عن الحياة البسيطة والعنف المسلط على الإنسان من ناحية أخرى، حيث أن الواقع يمثّل  مثيرا جماليّا وتعبيريا والبيئة ملهمة فنيّة جعل الفنان من تقنية الحفر التقنية الأكثر تعبيريّة حيث التلقائيّة والفعل وصراحة الخطوط التي تنتقل بين درجات الوضوح والإبهام، بين التجريد والتشخيص، للواقع والرمز، لحقيقة واحدة تضمر وتظهر عشرات الأوجه والزوايا لتفرض دروبا مختلفة في التفسير، اهتمت بعمق الثقافة والأصالة انطلاقا في عناصر شكليّة لها جذورها في التراث، في محفورات وليدة التفاعل بين الفنان والمحيط، لتنتج شحنة من الدلالات والرموز بتأسيس خطاب يحمل خصوصية تشكيليّة وإثبات مفاهيم فنيّة مغايرة للمألوف تدعو المشاهد إلى استكشاف باطنها وفكّ رموزها.
 

جدلية التشخيص والتجريد
 
لقد تراوحت محفورات الضحّاك بين التشخيص والتجريد، وبين الالتزام بالواقع الوصفي التقريري والابتكار لما هو مغاير للمألوف : فمثلت جل أعماله نقلا عن نموذج حي أو التأليف بالخيال: كما هو الشأن في مجموعة "الطيور" و"الجمال"، التي ركز فيها على اقتناص الحركة أو تسجيل لقطة ما في لحظة ما، فجاءت أعماله عبارة عن مشاهد يومية ببصمة ذاتية تطبع خصوصية إبراهيم الضحّاك، ومن بين محفوراته المتعلقة بأطروحة الجمال (العائلة – المرعى – حامل الخيمة والعائلة – الناقة والجمل) فهي مقاربة لمجموعة من المشاهد مقتبسة من الصحراء باعتباره كان يحلّ كضيف شرف في مهرجان دوز السنوي، وفي هذا الإطار يقول: "أستنبط مواضيع لوحاتي من التاريخ أولا ومن الواقع المعيش والمظاهر الحياتيّة اليومية ومن الذات ثانيا، أجتهد في تجسيدها من منظوري التجريدي الخاصّ..."(1) وبذلك تعدّدت مواضيعه بتعدّد أماكن تنقله، بحيث كان كثير التأثر بأجواء المكان الذي يزوره، فجعل من الترحال بحثا عن مفردات تشكيلية مرتبطة بإحساساته.
 
اهتم بالصحراء وأجوائها وتقاسيم المرأة البدوية والأساطير والخرافات التي كان يسمعها، وإثر تحوله إلى سيدي بوسعيد تأثر بالمكان، فكان يرصد العصافير المهاجرة ويشاهد حركاتها التي استمدّ منها موضوعا لبحثه، فيه مراوحة بين الاقتراب من الواقع والانغماس في درجة من درجات الرمزية، فاخذ من الواقعية أدقّ تعابيرها. وفي هذا الصدد يصرّح الضحّاك بقوله: "أنقل الواقع من منظور تجريدي وبفكر تجريدي، والمشاهد يصنّف أعمالي ضمن المدرسة الواقعيّة، في حين لا أراها واقعيّة بل تجريديّة وهنا تكمن حيرتي الإبداعية في ذلك التمزّق بين الواقعيّة والتجريديّة، لأن الفنّ تجريدي أو لا يكون، ولأن غاية الفنّ هي الإضافة والسبيل الأوحد إليها هو التجريد"(1)، ومن هذا المنطلق الفكري، جعل الضحّاك محفوراته نقلا للواقع بمنظار تجريدي، أراد من ذلك بلوغ أهداف تعبيريّة تتعلق بإبراز الأصالة والبحث عن التجديد وبلوغ الأفضل، والأهمّ من ذلك استجلاء نوازع ذاتيّة ورغبات يتوق إلى تحقيقها، فاتخذ من خصوصيّة الحفر وسيلة لبلوغها، ومن هنا تتجلّى رمزية الموضوع.
 
 

رمزيّة الموضوع بين الواقع والأسطورة 
 
تزخر تجربة الضحّاك بتعامل مخصوص مع الواقع والبعد الأسطوري والرمزي. وقبل البدء في توضيح هذا الاختيار وعلاقته بالفعل الحفري، أتطرّق إلى المعنى الذي تحمله الأسطورة : التي تتميز بطابع الهيمنة والتجذر في أذهان الناس، بحيث تبقى متصلة بالرمز اتصالا وثيقا، فقد تعامل معها الضحاك كتعلّة لنسج لعبة ترميزيّة تشكيليّة باللون والشكل: للتعبير عن خفايا الذات وعن أشياء تركت في نفسه أثرا مثل خرافة الهلاليين، مشاهد الصحراء، أصالة المرأة البدويّة، الطيور والجمال والسمك...بحث من خلالها عن هويته ببصمة ذاتية في إطار الأصالة العربية والبيئة التونسية بكل تقاسيمها ومميزاتها.
 
أراد أن يبلغ من الرمزية أقصاها، فصارت هاجسا يدفعه للبحث في التقنية لتكون المحفورة وليدة التفاعل بينه وبين المحيط، نستشف من خلالها شحنة من الدلالات والأوضاع التي منبعها المجتمع : تميزت مجموعة الهلاليات بالمشهد الحكائي لأفكار مترسّخة من وقائع الأسطورة، اعتمد فيها السياق الملحمي والوضع البطولي للشخوص من خلال توظيف شخصية ذياب الهلالي أو شخصية يونس، داخل معركة صحراوية في حركة تنبعث بين الخطوط والأشكال.
 
أما مجموعة الجمال، فقد قاربها بتناوب إيقاعيّ بين الأبيض والأسود، تميزت بجوّ صحراوي وبإثراءها بعناصر أخرى، وهو ما يؤشّر على معالجة الموضوع داخل رؤية أسلوبيّة تتجاوز فيها المحفورة عناصرها المركزيّة. فالجمل بالنسبة للضحّاك يختزل العديد من ملامح الذاكرة والتجليّات الرمزيّة داخل الأدب العربي، وعديدة هي القصائد التي تغنّت بالصحراء والبادية والخيمة والإبل، فهو رمز للترحال والصبر، والتي تعد من أنبل القيم الإنسانيّة، ولعلّه يجد في هذه الجوانب جزءا من ذاته باعتباره كان كثير الترحال، ومحباّ لما هو صحراوي أصيل. 
 
لكن لا إيقاعيّة الإبل ولا الملاحم تكفي لتلبية حاجة الفنان إلى الحركة، لذلك تطلّع إلى عالم الطيور الذي شدّ انتباهه عند انتقاله إلى سيدي بوسعيد، حيث قضى وقتا طويلا في دراسة حركاتها والذبذبة التي تخلّفها عند تحليقها في الفضاء، ومعرفة أنواعها وخصائصها: حيث جعله يحلّق في فضاء تشكيلي خاصّ به، فضاء اللّون والشكل: إذ نشأت بينه وبين الطيور قصّة حميميّة منذ صغره، فكان يحب  صطيادها ومطاردتها، كما أبرز إعجابه بخصالها عندما تحلّق في الفضاء وكأنه الكائن الوحيد الموجود، ويقول : "حلمت بالعصافير وبحريّة الطائر ..." ويظيف "إن الطائر يذكّره بالإنسان"(1) فمنهم الأشرار ومنهم المحبّ، وكل نوع يحمل دلالة عن خصال الإنسان، فأراد أن يعيد تمثيلها بطريقته الخاصّة بعد أن اطلع على كتب عديدة حول قدراتها وخصوصياتها التي وجد نفسه من خلالها، إذ كان كثير التنقل من بلد إلى آخر حيث مكث بروما ثم بزوريخ غاية الدراسة والاحتكاك بالتجارب الأخرى واكتشاف المزيد، لإثراء المعرفة والزاد الفنّي. ويقول في هذا الإطار:"اكتشفت الكثير من حضارتي: روما وقرطاج عن طريق المتاحف والمعارض الموجودة بعاصمة إيطاليا، ويمكن القول أن الرحلات تكمّل دائرة المعرفة"(2) فلقد مثل الطائر بالنسبة إليه رمزا فلسفيا ودينيا وعلامة من علامات القوة والهيبة، رمز للقوّة والهيبة ومادّة في البحث الاستيطيقي،أما في مجموعة "السمك"، فقد انطلق فيها من فكرة أنّ الأسماك هي رمز للتراث التونسي، حيث أن بعض الجهات من عاداتها وتقاليدها القيام بفعل "القفز على السمك" أو استعماله لإبعاد العين. بحيث تمسّك بمواضيع مستمدة من البيئة التونسيّة التي يجد من خلالها ذاته في مغامرة تتواصل مع التراثي والحكائي والخرافي والرمزي، في ظلّ حداثات مختلفة وتأثيرات معرفيّة وفلسفيّة اختار أن تكون محفوراته زحزحة للمألوف تتكوّن وتتشكّل بعيدا عن إلزاميّة الحدود، لأجل إضاءة الظاهر والخفيّ، بتأسيس زمنيّة أخرى يتداخل فيها الواقع مع النفسي، ليصبح رمزا لأفكار وأحلام وتأملات. انطلق فيها من سطوة ما علق بذاكرته بالمشاهدة والسماع ليصبح تساؤل عن ما هو قار ومستقر في المحفورة. فهل حافظ على نبض الأسطورة والواقع بسرديته أم بقي وقعها برموز لها إيحاءاتها؟ 
 
لم تكن المحفورة صدى للواقع أو فعلا تسجيليّا له، لأنّ ذلك يجعلها ذات صبغة توثيقيّة. لذلك اختار المنحى الرمزي التجريدي لينعطف إلى وظيفة فنيّة تشكيليّة قاعها أسطوري، واقعي. ويقول : "أستنبط مواضيعي من التاريخ أوّلا، ومن الواقع المعيش والمظاهر الحياتيّة اليوميّة، ومن الذّات ثانيا... فالفنّان التشكيلي مطلوب منه التعبير عن تراثه ورحلاته وعاداته وتقاليده ..."(1) وإن كانت رمزيّة الموضوع بين الواقع والأسطورة غاية أراد الضحّاك بلوغها، فإن خصوصيّة الحفر كانت وسيلته المساعدة على تحقيق هذا المسار.
 
 

الحفر وسيلة للبحث في الأنا بين الذاكرة والرمز
 
من خلال خصوصيّة الحفر، حاول الضحّاك مقاربة مواضيعه بوسائله وأدواته التي جعلها متفرّدة بداية من البحث الخطّي حتى الحصول على المسحوبة، فمثّل الحفر مطيّة ليبحث من خلاله في الأنا بين الذاكرة والرّمز، عبر الخطوط والألوان وهيكلة الفضاء: فنجد الألوان تخبئ الأشكال الصغرى، وتبني شفافيّة عجيبة تتعمّد أحيانا الإخفاء، فيضع المحفورة في جدليّة بين الثابت والمتحوّل، بين صدى الذاكرة والإشارات الرمزيّة كما استعان بإيقاعيّة الخطوط العنيفة، الصريحة التي ميّزت محفوراته ليعبّر من خلالها عن عنف داخليّ وتشنّج، أراد إظهاره عبر تقنية الحفر حيث حضرت الخطوط أكثر من المساحات، باستعماله لأدوات حادّة تدلّ على نظرة خاصة للأشياء، وتتطلّب الكثير من المجهود والقوّة للتحكّم فيها، وهو رمز لإصراره وجرأته وسعيه الدائم لبلوغ الأفضل، بخصوصيّة وسائل وأدوات الحفر وقد يكون ترجمة للتعبير عن المصاعب الذي مرّ بها خلال مسيرته الفنيّة بحثا عن ذاته وهواجسه، إذ يقول في هذا الإطار: "إنّ الحفر يستدعي تقنيات والتمكّن منها وإتقانها يعتبر فنّا"(1) فكانت جلّ أعماله يسبقها بحث وتخطيط لكنه عمد أحيانا على الاشتغال بتلقائيّة ليجعل عامل الصدفة حاضرا ولتكون حركات اليد السريعة مؤسّسة لفعله التشكيلي. فركز على الحفر، حيث أوجد التلقائيّة والحركيّة وصراحة الخطوط المنحنية وحدّتها، قد يجد خلفها شخصيته الحادّة والصّريحة في بلوغ الهدف بحلول تقنية مغايرة لغايات رمزيّة تشكيليّة، ليجعل من المحفورة علامة وأنموذجا لباحث عن مفردة جماليّة، قد يجد نفسه في أكثر حالاتها بين مفردات تراثيّة باستنطاق الأصالة أو التعبير عن الواقع، بالتحوّل من عالم الأرض (القوافل والحضرة) إلى الجوّ وعالم الطيور: "فإعادة إحياء جمل أو طائر هو شيء رائع..."(2) نعته النقّاد في أكثر من مقال بأنه «حفّار الذاكرة»(3) وبذلك وفّر لنفسه طريقة متفردة ومتميّزة للبحث الاستيطيقي بإعطائه للحفر تجديدا إبداعيا، فاتخذ من البحث عن الأنا هاجسا وقضية: "فالفنّان الجديد لا يعبّر عن الوهم، بل عن الواقع الواقعي وهو انصهار العالم مع الفنّان"(1) لذلك أراد أن يطبع ذاته بالنفاذ داخل المعطى الموجود واقتراح معطى مغاير يتوافق مع ميولاته وهواجسه: "باتخاذ موقف للرّوح أمام كل المناهج التي يستعملها العقل للتوصّل إلى معرفة ملموسة للواقع فالحداثة ليست مجرّد إدخال للتقنية والمخترعات الحديثة"(2)، بل سمات أسلوبيّة تمكّن من اكتسابها بعد دراسة وإطلاع. فلم يختر أسلوبا وصفيّا حياديّا، بل جمع بين التأمل الهادئ والنقد الموضوعي، لذلك احتوت محفوراته على قواسم مشتركة تدلّ على انتمائه بواقعيتها ورمزيتها، تتسّم بنبرته وبتشابك خطي عنيف يحتلّ المشهد ولئن جعل لمحفوراته أسلوبا خاصا متميّزا بالتراوح بين التشخيص والرمز، بين تمثيل الواقع وإعادة تشكيله بمنظوره الخاص، فإن فرديّة أسلوبه تأكدت من خلال إصراره على اختيار الحفر على الخشب، بعيدا عن إلزامية الحدود.
 
 

تقنية الخشب وفردية الأسلوب 
 
لئن كان الضحّاك على دراية بتقنيات الحفر المتعدّدة : المنقاش الصلب، الحمضيّة المساحيّة، الحمضية المنقوشة... فإنه اختار تقنية الخشب لتكون ملهمته وعلامة تميّزه، فقد نعت "بأب الحفر" في تونس باعتباره أول من درس ومارس هذه التقنية، وتوغّل في أعماقها ببراعة ومعرفة لأسرارها، بالبحث المتواصل عن الإضافة والتميّز وبالتنويع في المادّة والأداة. أراد بذلك أن يصل إلى مستوى تعبيري يحمل خصوصيـّة لأسلوب فـردي، فقد مثّل الخشب بالنسبة له "وسيطا يتميّـز بالكرم: مثل الصحراء، أو الأم يعطيني كلّ ما أريد مثل الطفل الذي يأخذ كل شيء من أمه"(1) ممّا يؤكّد حميميّة العلاقة بينه وبين الخشب، ولعلّه وجد هذه المادّة أقرب إلى الطبيعة وتذكره بالأصالة، بما أنه فنّان الأصالة والتراث خير هذه التقنية بالذات، فواصل في ممارستها برغم ما تحتاجه من عنف وقوة وجرأة وإقدام في حوار بين اليد والأداة، ولطالما تميّز بتجاوز العقبات وتحدّى الصعاب. ولأن هذه التقنية تستوجب الجرأة، فقد وظفها لتقديم أطروحاته الحفريّة طوال مسيرته التشكيليّة، (حول "الجمل" و"السيرة الهلاليّة" و"طيور البحر البيض المتوسط" و"الأسماك" و"المعتقدات") التي بحث من خلالها عن الكيف ببراعة، بين الاحتفاظ بالأساس التكويني والاقتصاد في التفاصيل فشرع في البداية بممارسة التقنية بقواعدها ووسائلها المألوفة للحفر حتى والحصول على المسحوبة بوسائل تقليديّة، لكنه رفض هذا الأسلوب الكلاسيكي وأراد أن يتفرّد ويتميّز باختراق الأسس المعروفة وتأسيس تقنية خاصّة به في تعامله مع الخشب: هذا ما استنتجته أثناء الحوار الذي أجريته مع عائلة الضحّاك حيث كان شديد الانفعال عند ممارسة الحفر على الخشب، بخلق حوارا تشكيليا عنيفا وحادّا ينتج عنه إبداعا ذاتيا، يعبّر من خلاله عن هواجسه اختار أن تكون جلّ أدواته حادة: فمنها الشفرة والسكين، مما جعل مسحوباته تتميّز بخطوط صريحة تعكس حركة عنيفة، تلقائيّة وآنية، فلم يكتف بالاشتغال على نوعيّة واحدة من الخشب، بل أراد أن يغيّر في النوعية بحثا عن الإضافة، فجعل محفوراته متكوّنة من عدّة مستويات بالتعويل على الرّسم الخطي لكلّ التفاصيل، ثم قصّ الأشكال. واشتغال كل جزء على حدة، وعند الطباعة يضع ألوانه ويقوم بعمليّة المونتاج، وبالتالي يحدد هيكلة المسحوبة، بواسطة الأشكال والألوان، حيث تتكوّن المسحوبة من عدّة طبعات حسب أوليات يفرضها الموضوع واللّون والشكل مثلّت تقنية الحفر بالنسبة له، مخبرا يحاول البحث فيه عن إضافة مغايرة وطريقة جديدة مبتكرة، تبرز فرديّة أسلوبه في الحصول على مسحوبة بتقنية الخشب، وتمكّن من اكتساب مكبسة خاصّة يتحكّم فيها عند الطباعة بتركيز ودقّة تامّة، بالاعتناء بكلّ التفاصيل الدقيقة، بواسطة إسطوانات خاصّة يستخدمها لطبع الخلفيّة ويقوم بتعديلها واستبدالها حسب الضرورة ليمرّر بقية الأشكال إذ يتطلّب الحصول على المسحوبة تركيزا تاما في تمشي منهجي دقيق، بفعل آني في إطار مغامرة لا يعـرف لها من مستقـر، لا تخلـو من الاكتشاف والتجربة، تعـرّف من خلالهـا على العديـد من التقنيات وسعى إلى اكتساب مهارات جديدة، بطبع محفوراته على محامل مختلفة (مثل القماش وأنواع ورقيّة متعدّدة)، فتمكن من إنجاز طبعات كثيرة مما جعل لديه خبرة ودراية كافية، ثم توجه للبحث عن السرعـة في الإنجاز: اكتـفى أحيانـا بتغيير نوع الخشب من شكل إلى آخر لتشكيل عناصر المحفورة، بالاقتصار على التنويع في الحياكات مع إضافة بعض الخطوط، أو الاكتفاء بقصّ الشكل وطبعه، في إطار البحث المستمرّ عن تقديم إضافة تقنيّة، حيث اعتبر الحفر استعدادا فكريّا وإتقان تقنيّا ليس له قواعد ثابتة بل شعاره الاختلاف والتحوّل بحثا عن التجديد والتفرّد بالرغم من أن مسحوباته مثّلت مشاهد يوميّة، فقد تمكّن من خلالها من تقديم إضافة ببصمة ذاتيّة تطبع خصوصيّة إبراهيم الضحّاك، بمقاربة مواضيعه التشخيصيّة في إطار ورشة الحفر، بأسلوب متفرّد ذاتي خاصّ به. لذلك بدت الهويّة الإبداعيّة لديه متنوّعة، تتّسم ببعد المخاطرة والمغامرة، بين الالتزام بالواقع الوصفي التقريري، والابتكار التقني الذي جعل منه وسيلة رمزيّة بإنتاج حوار بين المحمل والمحفورة، حيث البياض يجول على كامل التركيبة. وكأنه أراد أن يجعل جميع العناصر المؤثّثة لفضاء المسحوبة أن تتأثر بالموضوع لتؤسّس فعلا تشكيليّا خصوصيّا، من منطلق الفكرة إلى فرديّة أسلوب الإنجاز: لتقديم الإضافة انطلاقا من مرجعيّة واقعيّة. فقد نشد من محفورة إلى أخرى اختلافا ليس له من مستقرّ، سوى كان ذلك بطريقة خاصّة في قصّ الأشكال وعمليّة التحبير أو الدقّة في الطباعة وصراحة خطوطه كما تميّزت محفوراته بحضور التلقائيّة والآنيّة والدليل هو الفرق الذي لمسته من خلال الإطلاع على البحوث الخطّية الأوليّة، التي لم تكن متشابهة مع الطبعة النهائيّة للمحفورة. فلم يجعل منها مرجع تقيّد تام، بل أراد أحيانا التأليف بالخيال للانغماس في درجة من درجات الرمزيّة بشكل مستفز، حيث أراد أن يكون حاضرا بفكره وذاته وإحساسه الذي يتجلّى في اختياره لما يتّسق مع طبيعته.
 
يعتبر الضحاك أوّل فنّان تشكيلي نادى بضرورة فتح ورشات حفر داخل المدن  لتقريب الإبداع الحفري من العامّة ولمزيد التعريف بالتقنية. كما تمكّن من تقديم محفورات  جمع فيها بين الثراء التقني والبحث المعرفي، وفرديّة الأسلوب. ليس في اختيار الموضوع فحسب، بل في اختياره للخشب كمادّة لبحثه. أراد بذلك أن يكون قريبا من الطبيعة والأصالة، فقد نعت "بالطبيعة لأنه لا يبحث عن الأشياء الباهضة"(1) بل اختار التعبير بإمكانيات بسيطة لإعادة تمثيل واقعه بأسلوبه الخاصّ. كما شبّه "بنسمة هواء صافية، وأشعة شمس أو لحظة سعادة" (2)
 
فلقد جعل ذاته تتكلّم مكان الموضوع برمزيّة تتجلّى في سيرورة فعل متحوّلة بحثا عن الحقيقة وراء ظواهر الأشياء إذ يقول: "إني فنّان الحقيقة والأصالة"، عاش حيرة إبداعيّة، تميّز فيها عن غيره، سعيا إلى بلوغ الحداثة بإمكانياته التقنيّة، واجتهد قدر الإمكان في أن يكون متفرّدا: "إنّ انشغالي بالحفر جعلني أنقطع عن الرسم لمدّة سنوات، لأن حفرياتي عبارة عن أطروحات تستغرق سنوات من بحث ودراسة حول موضوع ما. وبكلّ تواضع لديّ ثقافة فنّية ما يمكّنني من الرسم بكلّ الأساليب التقنيّة لأنني أبحث دائما عن النوعيّة"(1) شارك في عدة تظاهرات الفنيّة بالخارج، وعرض محفوراته في العديد من أروقة الفنون العلميّة، وفي إطار الرمزيّة يصرّح الضحّاك بقوله: "أنطلق من وجهة نظر أن كلّ ما أوجّهه للمتلقي يأخذ صبغة الرمزية بداية من لحظة وضع علاماتي الخاصّة"(2)، بإقامة حوار بينه وبين مواضيع محفوراته، التي مثّلت تعلّة لبحثه ليقارب أحاسيسه ويبصم إبداعه من خلال الحفر على الخشب بنفس رمزي، ويضيف "عندما أستدعي شخوصا أو عصافير في أعمالي، وكأنني أستدعي رجالا إلى بيتي..."(3) فهو لم يكتف بنقل الواقع لمجرّد الاحتفال بالأصالة أو التراث، أو لإبراز قدراته في التشخيص، بل جعل حوارا تشكيليا بينه وبين موضوعه، يستنطق من خلاله خفايا لا ترى بالعين المجردة، ليطلق بتقنياته مجالا للحرية والتلقائيّة في التعبير بأدوات ووسائل اختارها وجعلها خاصّة به، في جدليّة بين تقنية الخشب وفرديّة الأسلوب.
 
 

آخر الأخبار

مالك سعادة يلتحق بالمنتخب الوطني لأقل من 20 سنة استعداداً للتصفيات الإفريقية

مالك سعادة يلتحق بالمنتخب الوطني لأقل من 20 سنة استعداداً للتصفيات الإفريقية

رحيل صادم: البطل التونسي رامز بوعلاقي يغادر المنتخب الوطني في إسبانيا

رحيل صادم: البطل التونسي رامز بوعلاقي يغادر المنتخب الوطني في إسبانيا

ضربة موجعة للترجي: إصابة يان ساس وغياب لأربعة أسابيع

ضربة موجعة للترجي: إصابة يان ساس وغياب لأربعة أسابيع

تعادل مثير بين الإفريقي والنجم الساحلي في قمة كرة اليد

تعادل مثير بين الإفريقي والنجم الساحلي في قمة كرة اليد

النادي الإفريقي يقسو على مستقبل سليمان برباعية ويستعيد الصدارة المؤقتة

النادي الإفريقي يقسو على مستقبل سليمان برباعية ويستعيد الصدارة المؤقتة

Please publish modules in offcanvas position.