الصفحة 3 من 5
رمزيّة الموضوع بين الواقع والأسطورة
تزخر تجربة الضحّاك بتعامل مخصوص مع الواقع والبعد الأسطوري والرمزي. وقبل البدء في توضيح هذا الاختيار وعلاقته بالفعل الحفري، أتطرّق إلى المعنى الذي تحمله الأسطورة : التي تتميز بطابع الهيمنة والتجذر في أذهان الناس، بحيث تبقى متصلة بالرمز اتصالا وثيقا، فقد تعامل معها الضحاك كتعلّة لنسج لعبة ترميزيّة تشكيليّة باللون والشكل: للتعبير عن خفايا الذات وعن أشياء تركت في نفسه أثرا مثل خرافة الهلاليين، مشاهد الصحراء، أصالة المرأة البدويّة، الطيور والجمال والسمك...بحث من خلالها عن هويته ببصمة ذاتية في إطار الأصالة العربية والبيئة التونسية بكل تقاسيمها ومميزاتها.
أراد أن يبلغ من الرمزية أقصاها، فصارت هاجسا يدفعه للبحث في التقنية لتكون المحفورة وليدة التفاعل بينه وبين المحيط، نستشف من خلالها شحنة من الدلالات والأوضاع التي منبعها المجتمع : تميزت مجموعة الهلاليات بالمشهد الحكائي لأفكار مترسّخة من وقائع الأسطورة، اعتمد فيها السياق الملحمي والوضع البطولي للشخوص من خلال توظيف شخصية ذياب الهلالي أو شخصية يونس، داخل معركة صحراوية في حركة تنبعث بين الخطوط والأشكال.
أما مجموعة الجمال، فقد قاربها بتناوب إيقاعيّ بين الأبيض والأسود، تميزت بجوّ صحراوي وبإثراءها بعناصر أخرى، وهو ما يؤشّر على معالجة الموضوع داخل رؤية أسلوبيّة تتجاوز فيها المحفورة عناصرها المركزيّة. فالجمل بالنسبة للضحّاك يختزل العديد من ملامح الذاكرة والتجليّات الرمزيّة داخل الأدب العربي، وعديدة هي القصائد التي تغنّت بالصحراء والبادية والخيمة والإبل، فهو رمز للترحال والصبر، والتي تعد من أنبل القيم الإنسانيّة، ولعلّه يجد في هذه الجوانب جزءا من ذاته باعتباره كان كثير الترحال، ومحباّ لما هو صحراوي أصيل.
لكن لا إيقاعيّة الإبل ولا الملاحم تكفي لتلبية حاجة الفنان إلى الحركة، لذلك تطلّع إلى عالم الطيور الذي شدّ انتباهه عند انتقاله إلى سيدي بوسعيد، حيث قضى وقتا طويلا في دراسة حركاتها والذبذبة التي تخلّفها عند تحليقها في الفضاء، ومعرفة أنواعها وخصائصها: حيث جعله يحلّق في فضاء تشكيلي خاصّ به، فضاء اللّون والشكل: إذ نشأت بينه وبين الطيور قصّة حميميّة منذ صغره، فكان يحب صطيادها ومطاردتها، كما أبرز إعجابه بخصالها عندما تحلّق في الفضاء وكأنه الكائن الوحيد الموجود، ويقول : "حلمت بالعصافير وبحريّة الطائر ..." ويظيف "إن الطائر يذكّره بالإنسان"(1) فمنهم الأشرار ومنهم المحبّ، وكل نوع يحمل دلالة عن خصال الإنسان، فأراد أن يعيد تمثيلها بطريقته الخاصّة بعد أن اطلع على كتب عديدة حول قدراتها وخصوصياتها التي وجد نفسه من خلالها، إذ كان كثير التنقل من بلد إلى آخر حيث مكث بروما ثم بزوريخ غاية الدراسة والاحتكاك بالتجارب الأخرى واكتشاف المزيد، لإثراء المعرفة والزاد الفنّي. ويقول في هذا الإطار:"اكتشفت الكثير من حضارتي: روما وقرطاج عن طريق المتاحف والمعارض الموجودة بعاصمة إيطاليا، ويمكن القول أن الرحلات تكمّل دائرة المعرفة"(2) فلقد مثل الطائر بالنسبة إليه رمزا فلسفيا ودينيا وعلامة من علامات القوة والهيبة، رمز للقوّة والهيبة ومادّة في البحث الاستيطيقي،أما في مجموعة "السمك"، فقد انطلق فيها من فكرة أنّ الأسماك هي رمز للتراث التونسي، حيث أن بعض الجهات من عاداتها وتقاليدها القيام بفعل "القفز على السمك" أو استعماله لإبعاد العين. بحيث تمسّك بمواضيع مستمدة من البيئة التونسيّة التي يجد من خلالها ذاته في مغامرة تتواصل مع التراثي والحكائي والخرافي والرمزي، في ظلّ حداثات مختلفة وتأثيرات معرفيّة وفلسفيّة اختار أن تكون محفوراته زحزحة للمألوف تتكوّن وتتشكّل بعيدا عن إلزاميّة الحدود، لأجل إضاءة الظاهر والخفيّ، بتأسيس زمنيّة أخرى يتداخل فيها الواقع مع النفسي، ليصبح رمزا لأفكار وأحلام وتأملات. انطلق فيها من سطوة ما علق بذاكرته بالمشاهدة والسماع ليصبح تساؤل عن ما هو قار ومستقر في المحفورة. فهل حافظ على نبض الأسطورة والواقع بسرديته أم بقي وقعها برموز لها إيحاءاتها؟
لم تكن المحفورة صدى للواقع أو فعلا تسجيليّا له، لأنّ ذلك يجعلها ذات صبغة توثيقيّة. لذلك اختار المنحى الرمزي التجريدي لينعطف إلى وظيفة فنيّة تشكيليّة قاعها أسطوري، واقعي. ويقول : "أستنبط مواضيعي من التاريخ أوّلا، ومن الواقع المعيش والمظاهر الحياتيّة اليوميّة، ومن الذّات ثانيا... فالفنّان التشكيلي مطلوب منه التعبير عن تراثه ورحلاته وعاداته وتقاليده ..."(1) وإن كانت رمزيّة الموضوع بين الواقع والأسطورة غاية أراد الضحّاك بلوغها، فإن خصوصيّة الحفر كانت وسيلته المساعدة على تحقيق هذا المسار.