الصفحة 5 من 5
تقنية الخشب وفردية الأسلوب
لئن كان الضحّاك على دراية بتقنيات الحفر المتعدّدة : المنقاش الصلب، الحمضيّة المساحيّة، الحمضية المنقوشة... فإنه اختار تقنية الخشب لتكون ملهمته وعلامة تميّزه، فقد نعت "بأب الحفر" في تونس باعتباره أول من درس ومارس هذه التقنية، وتوغّل في أعماقها ببراعة ومعرفة لأسرارها، بالبحث المتواصل عن الإضافة والتميّز وبالتنويع في المادّة والأداة. أراد بذلك أن يصل إلى مستوى تعبيري يحمل خصوصيـّة لأسلوب فـردي، فقد مثّل الخشب بالنسبة له "وسيطا يتميّـز بالكرم: مثل الصحراء، أو الأم يعطيني كلّ ما أريد مثل الطفل الذي يأخذ كل شيء من أمه"(1) ممّا يؤكّد حميميّة العلاقة بينه وبين الخشب، ولعلّه وجد هذه المادّة أقرب إلى الطبيعة وتذكره بالأصالة، بما أنه فنّان الأصالة والتراث خير هذه التقنية بالذات، فواصل في ممارستها برغم ما تحتاجه من عنف وقوة وجرأة وإقدام في حوار بين اليد والأداة، ولطالما تميّز بتجاوز العقبات وتحدّى الصعاب. ولأن هذه التقنية تستوجب الجرأة، فقد وظفها لتقديم أطروحاته الحفريّة طوال مسيرته التشكيليّة، (حول "الجمل" و"السيرة الهلاليّة" و"طيور البحر البيض المتوسط" و"الأسماك" و"المعتقدات") التي بحث من خلالها عن الكيف ببراعة، بين الاحتفاظ بالأساس التكويني والاقتصاد في التفاصيل فشرع في البداية بممارسة التقنية بقواعدها ووسائلها المألوفة للحفر حتى والحصول على المسحوبة بوسائل تقليديّة، لكنه رفض هذا الأسلوب الكلاسيكي وأراد أن يتفرّد ويتميّز باختراق الأسس المعروفة وتأسيس تقنية خاصّة به في تعامله مع الخشب: هذا ما استنتجته أثناء الحوار الذي أجريته مع عائلة الضحّاك حيث كان شديد الانفعال عند ممارسة الحفر على الخشب، بخلق حوارا تشكيليا عنيفا وحادّا ينتج عنه إبداعا ذاتيا، يعبّر من خلاله عن هواجسه اختار أن تكون جلّ أدواته حادة: فمنها الشفرة والسكين، مما جعل مسحوباته تتميّز بخطوط صريحة تعكس حركة عنيفة، تلقائيّة وآنية، فلم يكتف بالاشتغال على نوعيّة واحدة من الخشب، بل أراد أن يغيّر في النوعية بحثا عن الإضافة، فجعل محفوراته متكوّنة من عدّة مستويات بالتعويل على الرّسم الخطي لكلّ التفاصيل، ثم قصّ الأشكال. واشتغال كل جزء على حدة، وعند الطباعة يضع ألوانه ويقوم بعمليّة المونتاج، وبالتالي يحدد هيكلة المسحوبة، بواسطة الأشكال والألوان، حيث تتكوّن المسحوبة من عدّة طبعات حسب أوليات يفرضها الموضوع واللّون والشكل مثلّت تقنية الحفر بالنسبة له، مخبرا يحاول البحث فيه عن إضافة مغايرة وطريقة جديدة مبتكرة، تبرز فرديّة أسلوبه في الحصول على مسحوبة بتقنية الخشب، وتمكّن من اكتساب مكبسة خاصّة يتحكّم فيها عند الطباعة بتركيز ودقّة تامّة، بالاعتناء بكلّ التفاصيل الدقيقة، بواسطة إسطوانات خاصّة يستخدمها لطبع الخلفيّة ويقوم بتعديلها واستبدالها حسب الضرورة ليمرّر بقية الأشكال إذ يتطلّب الحصول على المسحوبة تركيزا تاما في تمشي منهجي دقيق، بفعل آني في إطار مغامرة لا يعـرف لها من مستقـر، لا تخلـو من الاكتشاف والتجربة، تعـرّف من خلالهـا على العديـد من التقنيات وسعى إلى اكتساب مهارات جديدة، بطبع محفوراته على محامل مختلفة (مثل القماش وأنواع ورقيّة متعدّدة)، فتمكن من إنجاز طبعات كثيرة مما جعل لديه خبرة ودراية كافية، ثم توجه للبحث عن السرعـة في الإنجاز: اكتـفى أحيانـا بتغيير نوع الخشب من شكل إلى آخر لتشكيل عناصر المحفورة، بالاقتصار على التنويع في الحياكات مع إضافة بعض الخطوط، أو الاكتفاء بقصّ الشكل وطبعه، في إطار البحث المستمرّ عن تقديم إضافة تقنيّة، حيث اعتبر الحفر استعدادا فكريّا وإتقان تقنيّا ليس له قواعد ثابتة بل شعاره الاختلاف والتحوّل بحثا عن التجديد والتفرّد بالرغم من أن مسحوباته مثّلت مشاهد يوميّة، فقد تمكّن من خلالها من تقديم إضافة ببصمة ذاتيّة تطبع خصوصيّة إبراهيم الضحّاك، بمقاربة مواضيعه التشخيصيّة في إطار ورشة الحفر، بأسلوب متفرّد ذاتي خاصّ به. لذلك بدت الهويّة الإبداعيّة لديه متنوّعة، تتّسم ببعد المخاطرة والمغامرة، بين الالتزام بالواقع الوصفي التقريري، والابتكار التقني الذي جعل منه وسيلة رمزيّة بإنتاج حوار بين المحمل والمحفورة، حيث البياض يجول على كامل التركيبة. وكأنه أراد أن يجعل جميع العناصر المؤثّثة لفضاء المسحوبة أن تتأثر بالموضوع لتؤسّس فعلا تشكيليّا خصوصيّا، من منطلق الفكرة إلى فرديّة أسلوب الإنجاز: لتقديم الإضافة انطلاقا من مرجعيّة واقعيّة. فقد نشد من محفورة إلى أخرى اختلافا ليس له من مستقرّ، سوى كان ذلك بطريقة خاصّة في قصّ الأشكال وعمليّة التحبير أو الدقّة في الطباعة وصراحة خطوطه كما تميّزت محفوراته بحضور التلقائيّة والآنيّة والدليل هو الفرق الذي لمسته من خلال الإطلاع على البحوث الخطّية الأوليّة، التي لم تكن متشابهة مع الطبعة النهائيّة للمحفورة. فلم يجعل منها مرجع تقيّد تام، بل أراد أحيانا التأليف بالخيال للانغماس في درجة من درجات الرمزيّة بشكل مستفز، حيث أراد أن يكون حاضرا بفكره وذاته وإحساسه الذي يتجلّى في اختياره لما يتّسق مع طبيعته.
يعتبر الضحاك أوّل فنّان تشكيلي نادى بضرورة فتح ورشات حفر داخل المدن لتقريب الإبداع الحفري من العامّة ولمزيد التعريف بالتقنية. كما تمكّن من تقديم محفورات جمع فيها بين الثراء التقني والبحث المعرفي، وفرديّة الأسلوب. ليس في اختيار الموضوع فحسب، بل في اختياره للخشب كمادّة لبحثه. أراد بذلك أن يكون قريبا من الطبيعة والأصالة، فقد نعت "بالطبيعة لأنه لا يبحث عن الأشياء الباهضة"(1) بل اختار التعبير بإمكانيات بسيطة لإعادة تمثيل واقعه بأسلوبه الخاصّ. كما شبّه "بنسمة هواء صافية، وأشعة شمس أو لحظة سعادة" (2)
فلقد جعل ذاته تتكلّم مكان الموضوع برمزيّة تتجلّى في سيرورة فعل متحوّلة بحثا عن الحقيقة وراء ظواهر الأشياء إذ يقول: "إني فنّان الحقيقة والأصالة"، عاش حيرة إبداعيّة، تميّز فيها عن غيره، سعيا إلى بلوغ الحداثة بإمكانياته التقنيّة، واجتهد قدر الإمكان في أن يكون متفرّدا: "إنّ انشغالي بالحفر جعلني أنقطع عن الرسم لمدّة سنوات، لأن حفرياتي عبارة عن أطروحات تستغرق سنوات من بحث ودراسة حول موضوع ما. وبكلّ تواضع لديّ ثقافة فنّية ما يمكّنني من الرسم بكلّ الأساليب التقنيّة لأنني أبحث دائما عن النوعيّة"(1) شارك في عدة تظاهرات الفنيّة بالخارج، وعرض محفوراته في العديد من أروقة الفنون العلميّة، وفي إطار الرمزيّة يصرّح الضحّاك بقوله: "أنطلق من وجهة نظر أن كلّ ما أوجّهه للمتلقي يأخذ صبغة الرمزية بداية من لحظة وضع علاماتي الخاصّة"(2)، بإقامة حوار بينه وبين مواضيع محفوراته، التي مثّلت تعلّة لبحثه ليقارب أحاسيسه ويبصم إبداعه من خلال الحفر على الخشب بنفس رمزي، ويضيف "عندما أستدعي شخوصا أو عصافير في أعمالي، وكأنني أستدعي رجالا إلى بيتي..."(3) فهو لم يكتف بنقل الواقع لمجرّد الاحتفال بالأصالة أو التراث، أو لإبراز قدراته في التشخيص، بل جعل حوارا تشكيليا بينه وبين موضوعه، يستنطق من خلاله خفايا لا ترى بالعين المجردة، ليطلق بتقنياته مجالا للحرية والتلقائيّة في التعبير بأدوات ووسائل اختارها وجعلها خاصّة به، في جدليّة بين تقنية الخشب وفرديّة الأسلوب.