أبهرنا حمادي المزي بأداء مذهل لمسرحيته الرائعة "قطيع"،لقد كانت هذه المسرحية لحظة تاريخية، حيث قطعت مسارًا متميزًا من خلال التفوق على إبداعه السابق، وحققت نقلة جذرية في التعبير الجمالي والفكري الذي اختاره.
تناولت "قطيع" واقع الإنسان الجديد في مواجهة انهيار منتجات الحداثة، حيث تحولت قيمنا الثابتة إلى مفهوم متحرك، انزحت وتلاشت بفعل انحدار قيمي وتسلط العقلانية التجارية وقيم الاستهلاك. المسرحية تقدم لنا لوحة معقدة لوضع الإنسان في زمن مضطرب، حيث يتقاطع فيه العلاقات بين المرضى وبين العاملين في المستشفى، وتكشف عن رغبة جماعية في الهروب.
ومع ذلك، تطرح المسرحية تساؤلات هامة: هل يمكن للهروب أن يكون حلاً؟ ومن يحاول الهروب من من؟ ففي هذا المكان الخاص، حيث يتداخل الجنون والعقلانية، يظهر الطبيب كسلطان مستبد، يملك الجميع ويفرض إرادته بلا رحمة، وهو يستخدم سلطته لتعزيز الأزمة بدلاً من حلها.
يقع شخصيات المسرحية في حركتين متناقضتين: حركة جماعية تؤكد على مأساتهم، وحركة فردية تسعى إلى تبرير الهروب. إنهم يفرّون من أنفسهم ومن واقعهم المأساوي، يتأملون في تعقيد المشهد الذي يعكس تدهور الإنسان وفراغه.
بشكل رائع، يستخدم مجانين المزي لغة عاقلة لتصوير تفاعلاتهم وتواصلهم مع العالم المحيط بهم، مما يجعل المارستان محطًا لتجميعهم وتوحيد هروبهم. ومع ذلك، يثير السؤال: هل هناك منفذ من المارستان الصغير إلى المارستان الكبير؟ هل هو مجرد مكان أم إطار فني، أم ربما هو الجحيم الذي يحاولون الهروب منه؟
"قطيع" لم تكن مجرد مسرحية، بل كانت رحلة فنية وفلسفية تأخذنا إلى عالم مليء بالتساؤلات والتحديات، حيث يتجسد الهروب كحاجة جماعية ومطمح فردي في مواجهة أزمة الواقع.