يعد القانون الأساسي عدد 4 لسنة 2025 المؤرخ في 12 مارس 2025، والمتعلق بالمجالس المحلية والجهوية ومجالس الأقاليم، خطوة جوهرية في مسار تعزيز اللامركزية في تونس، ولئن كان هذا القانون يمثل استجابة طبيعية لما نص عليه دستور الجمهورية التونسية لسنة 2014 في بابه السابع من ضرورة تكريس الحكم المحلي كخيار استراتيجي، فإنه يأتي أيضا في سياق استكمال البناء المؤسساتي الذي أرساه القانون الأساسي عدد 29 لسنة 2018 المتعلق بمجلة الجماعات المحلية، ومن هنا فإن هذا القانون الجديد لا ينفصل عن جملة من النصوص التشريعية السابقة التي سعت إلى وضع أسس متينة لمنظومة حكم محلي فعّال ومتوازن.
مقالات ذات صلة:
رأي: نحو آفاق جديدة لمهرجانات صيفية تكون قاطرة تنموية لامركزية
فضيحة مدوية: عون بالصيدلية المركزية يسرق الأدوية لمدة 10 سنوات والزوجة تكشف المستور
الجيش الإسرائيلي يتهم متطرفين يهودا بمضايقة قائد القيادة المركزية في الخليل
ولفهم أبعاد هذا القانون بعمق لابد من استحضار الإرث التاريخي الذي ميز علاقة الدولة بالجهات، فقد ظلت تونس ولسنوات طويلة خاضعة لنظام مركزي مشدد تجسدت مظاهره في تركز القرار السياسي والاقتصادي في العاصمة ما أدى إلى خلق فوارق تنموية حادة بين الجهات، هذه الفوارق لم تكن مجرد تفاوت في مستوى المشاريع أو توزيع الموارد فحسب إنما امتدت لتؤثر بشكل مباشر في فرص التنمية وخلق بيئة غير متكافئة حالت دون تحقيق العدالة الاجتماعية.
وفي هذا الإطار، جاء القانون الأساسي عدد 4 لسنة 2025 ليضع حدا لهذا الخلل التاريخي حيث نص في فصله الأول على أن المجالس المحلية والجهوية ومجالس الأقاليم هي جماعات محلية تتمتع بالشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية، ويعني ذلك عمليا أنها باتت تمتلك سلطة تقريرية واسعة في إدارة شؤونها وفقا لأولوياتها المحلية مع الالتزام بأهداف التنمية الوطنية الشاملة، هذا التصور يعكس توازنا دقيقا بين الحاجة إلى استقلالية هذه المجالس من جهة وضمان وحدة الدولة من جهة أخرى.
ولتعزيز فاعلية هذه المجالس نص الفصل السادس من القانون على منح تعويضات مالية لأعضائها وفق مقتضيات تضمن استقلاليتهم وتساعدهم على أداء مهامهم بفاعلية وهو ما يتماشى مع ما أقره القانون الأساسي عدد 87 لسنة 1989 المتعلق بالمجالس الجهوية الذي أكد على ضرورة توفير الإمكانات المالية الضرورية لضمان نجاح تلك المجالس في القيام بواجباتها التنموية.
ومن جهة أخرى، لم يغفل القانون الجديد عن إرساء آليات رقابية صارمة لضمان نزاهة العمل داخل هذه المجالس، فقد نص الفصل الرابع على إجراءات واضحة لاستبدال الأعضاء في حال فقدانهم للثقة أو ارتكابهم تجاوزات تستوجب الإعفاء ما يجسد توجها حازما نحو ترسيخ مبدأ المساءلة والشفافية، هذا التوجه لا ينفصل عن ما جاء في القانون الأساسي عدد 26 لسنة 1994 الذي وضع ضوابط صارمة تضمن عدم استغلال أعضاء المجالس المحلية مناصبهم لتحقيق مصالح شخصية.
أما على مستوى الموارد المالية، فقد نص الفصل الثامن من القانون على أن ميزانية هذه المجالس تعد وفقا لأحكام القانون الأساسي عدد 35 لسنة 1975 المتعلق بميزانية الجماعات المحلية مع ضرورة تكييف تلك الأحكام بما يستجيب لخصوصيات المجالس المحلية والجهوية ومجالس الأقاليم في المرحلة الراهنة، هذه المقاربة تسعى في طياتها إلى إرساء توازن حقيقي بين توفير استقلالية مالية لهذه المجالس وبين إخضاعها لرقابة تضمن توجيه الموارد نحو المشاريع التنموية الفعلية.
وما يميز هذا القانون هو حرصه على تعزيز التكامل بين المستويات المختلفة للسلطة المحلية فبينما تمنح المجالس المحلية صلاحيات واسعة في إدارة الشأن التنموي والاجتماعي داخل مناطقها، فإن المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم تتولى تنسيق الجهود وتوجيه السياسات التنموية الكبرى بما يضمن انسجاما في تحقيق الأهداف الوطنية، هذه المنظومة المتكاملة تترجم بوضوح رؤية متقدمة ترى في الحكم المحلي ركيزة لتحقيق تنمية متوازنة وشاملة.
ولعل أبرز ما يدعو إلى التفاؤل هو أن القانون الأساسي الجديد جاء ليكمل سلسلة من الإصلاحات القانونية الهادفة إلى تعزيز المسار الديمقراطي التشاركي، فالتنصيص على ضرورة إشراك المواطنين في صياغة مشاريع التنمية المحلية وتفعيل آليات الاستشارة العمومية يُعزز قيم المواطنة الفاعلة، وهو ما ينسجم مع ما أقره القانون الأساسي عدد 11 لسنة 1989 الذي شدد على أهمية مشاركة المجتمع المدني في وضع السياسات التنموية.
ومع ذلك، فإن نجاح هذا القانون يظل مشروطا بعدة عوامل يأتي في مقدمتها توفير الدولة للدعم المالي والفني الكافي لتمكين هذه المجالس من أداء مهامها بفاعلية، كما أن تكوين الكفاءات المحلية القادرة على إدارة المشاريع التنموية بشكل مدروس يعدّ ضرورة حتمية لضمان عدم انحراف هذه التجربة عن أهدافها.
إن هذا القانون ليس مجرد نص تشريعي تقني إنما هو انعكاس لرؤية إصلاحية تسعى إلى إعادة رسم خارطة توزيع السلطة في تونس على أسس أكثر عدالة، وإذا ما تم تفعيله بالشكل الصحيح فإنه قد يشكل نقلة نوعية في مسار بناء دولة حديثة تحقق التنمية المتوازنة وتضمن مشاركة حقيقية للمواطن في إدارة شؤونه المحلية.