بينما تسعى تونس إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية في كافة أرجائها تظل المرأة الريفية العاملة في القطاع الفلاحي إحدى أكثر الفئات هشاشة في المجتمع، تلك التي تنطلق في رحلة شقاء يومية نحو الحقول، تواجه تحديات تتعدى حدود التعب الجسدي لتغوص في تعقيدات النقل غير الآمن، غياب الحماية القانونية، والاستغلال الممنهج؛ وفي هذا السياق انعقد الحوار الوطني بتونس في 11 ديسمبر 2024 تحت شعار "المطالبة بنقل آمن وكريم للنساء في المناطق الريفية" بتنظيم مشترك بين الأمم المتحدة للمرأة والصندوق الدولي للتنمية الزراعية ليضع الإصبع على جرح طالما نسي في زحمة الأولويات الوطنية.
مقالات ذات صلة:
مراكز التجميل في تونس: بين غياب الرقابة واستغلال العاملات في بيئة غير قانونية
حوادث الطرق تؤرق العاملات الفلاحيات: دعوات لتطبيق قوانين وتوفير حماية حقيقية
إصابة 10 عاملات في حادث مرور بالكاف
يوميات العاملات في الحقول تحكي قصصا مؤلمة عن معاناة تبدأ منذ الصباح الباكر؛ اكتظاظ في شاحنات متهالكة، غياب معايير السلامة، وتعرض متكرر للتحرش اللفظي والجسدي، هذه الظروف لا تعكس فقط انتهاكا لحقوق الإنسان، بل تؤسس أيضا لتجريد المرأة الريفية من حقها في بيئة عمل آمنة تليق بكرامتها الإنسانية.
اذ أن غياب منظومة نقل منظمة ومهيكلة يزيد من عمق المشكلة، فالمزارعون والسماسرة، الذين غالبا ما يتولون الإشراف على نقل العاملات، لا يعيرون اهتماما كافيا لمسؤولياتهم الاجتماعية والقانونية، وفي ظل غياب التشريعات المفعلة والرقابة الصارمة، يتحول النقل من وسيلة للتنقل إلى مصدر خطر دائم يهدد حياة العاملات.
هذا ويعد المرسوم عدد 4 لسنة 2024 خطوة قانونية جادة نحو تنظيم النقل في القطاع الفلاحي،لكنه كغيره من النصوص القانونية يواجه تحديات كبيرة على مستوى التنفيذ، فلا يكفي أن يسن قانون لتغيير واقع متأصل؛ بل يجب أن يرافق ذلك بتفعيل دور رقابي صارم وآليات تضمن المحاسبة الفورية لكل من يخرق القانون.
إن مواجهة هذه الأزمة يتطلب رؤية شاملة تتجاوز الحلول الجزئية ولعل أولى الخطوات تتمثل في إنشاء تطبيقة وطنية تشرف عليها وزارة المرأة والفلاحة والشؤون الاجتماعية والداخلية بالتنسيق مع وزارة النقل ومؤسسات المجتمع المدني، تخصص لحصر العاملات في القطاع الفلاحي، تسجيل بياناتهن، ومتابعة احتياجاتهن اليومية.
كما ينبغي تأسيس شراكات استراتيجية مع شركات النقل الأهلي لإنشاء منظومة نقل آمنة ومنظمة، اذ يمكن على سبيل المثال اعتماد بطاقة انخراط سنوية لكل عاملة، تتيح لهن الاستفادة من خدمات نقل لائقة، مثل هذه الخطوة لن تساهم فقط في تحسين جودة النقل بل ستوفر أيضا قاعدة بيانات دقيقة تساعد في توجيه السياسات المستقبلية.
كما لا يمكن تجاهل دور التوعية والتدريب في معالجة التحديات الاجتماعية المرتبطة بالنقل،اذ يجب أن تنظم حملات تدريبية تستهدف العاملات، تعرفهن بحقوقهن القانونية وكيفية المطالبة بها وذلك بشكل دوري ليس سنوي ومناسباتي، كما ينبغي تدريب سائقي الشاحنات والمزارعين على معايير السلامة المهنية، مع التركيز على تعزيز قيم احترام المرأة ومنع الاستغلال.
إلى جانب التوعية، يبقى التفعيل الصارم لدور الأجهزة الرقابية ضرورة لا غنى عنها، اذ يجب أن تخصص فرق رقابية متنقلة تتابع مدى التزام وسائل النقل بمعايير السلامة، وأن تفرض عقوبات صارمة تصل إلى حد الإيقاف الفوري لكل من يثبت تورطه في استغلال أو تعريض حياة العاملات للخطر.
ان المطالبات بنقل آمن وكريم للنساء الريفيات ليست ترفا بل هي دعوة ملحة لإعادة النظر في الأولويات الوطنية؛ فالمرأة الريفية التي تسهم بجهدها في دعم الاقتصاد الوطني تستحق أن تنعم ببيئة عمل تحفظ كرامتها وتؤمن سلامتها، ونجاح هذا المشروع يتطلب تنسيقا محكما بين جميع الأطراف المعنية بدءا من الوزارات، مرورا بالمجتمع المدني، وصولا إلى الأفراد أنفسهم.
هذا المسار رغم صعوبته هو السبيل الوحيد لتحقيق العدالة الاجتماعية التي طالما نادت بها تونس، لأن نقلا آمنا للنساء الريفيات ليس فقط ضمانا لسلامتهن بل هو أيضا خطوة نحو تحقيق مجتمع أكثر إنصافا وتوازنا حيث تكون الكرامة الإنسانية حقا للجميع دون استثناء أو تمييز.
ولضمان نجاح هذه الحلول لابد من تعزيز ثقافة المساءلة والشفافية، فلا يمكن أن يقتصر الأمر على سن قوانين وتنظيم لقاءات وطنية بل يجب أن تصبح حقوق المرأة الريفية أولوية دائمة في أجندات التنمية؛ ولهذا يعد إشراك النساء الريفيات أنفسهن في صياغة السياسات وإدارة المبادرات خطوة محورية.
اذ ينبغي أن تأخذ الدولة بزمام المبادرة لتفعيل منظومة تشاركية تجعل من المرأة الريفية شريكة أساسية في اتخاذ القرار، فهذا التمكين لن يساهم فقط في تحسين أوضاع النقل بل سيساهم أيضا في الحد من التمييز ضدها على كافة المستويات.
وفي عصر التحول الرقمي، يمكن للتكنولوجيا أن تكون جزءا رئيسيا من الحل، فنطوير تطبيقات ذكية تعنى بتحديد خطوط النقل الآمنة، عدد الركاب المسموح به، وتوفير آلية إبلاغ فورية عن أي تجاوزات، سيشكل نقلة نوعية، وهذه التطبيقات إذا ما ارتبطت بشبكة مراقبة مركزية وطنية يمكن أن تحدث تحولا جذريا في حماية العاملات من التحرش والاستغلال.
كما يجب التفكير في وسائل نقل مستدامة مثل الحافلات المخصصة للعاملات والتي تعمل وفق نظام نقل جماعي مبرمج مسبقا، اذ يمكن لهذه الوسائل أن تكون جزءا من شراكات بين القطاعين العام والخاص مع تحفيز المستثمرين على المشاركة في مثل هذه المشاريع من خلال منح امتيازات ضريبية.
ولتغيير جذري ومستدام يجب أن يبدأ الإصلاح من التعليم وذلك بإدماج برامج توعوية في المناهج المدرسية حول أهمية احترام حقوق المرأة ومساواتها بالرجل مما سيكون له أثر طويل المدى في بناء أجيال واعية بالقضايا المجتمعية، كما أن دعم تعليم الفتيات في المناطق الريفية يمثل ركيزة أساسية لكسر دائرة الفقر والاستغلال وفتح آفاق جديدة أمام النساء ليصبحن قادرات على الدفاع عن أنفسهن ومجتمعاتهن.
ختاما، لا يمكن النظر إلى قضية النقل الآمن للنساء الريفيات بمعزل عن السياق العام للعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، فهذه القضية ليست مجرد مطلب حقوقي بل اختبار حقيقي لمدى التزام الدولة والمجتمع بتحقيق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص.
وفي ضوء الحوار الوطني الذي انعقد تحت شعار "المطالبة بنقل آمن وكريم للنساء في المناطق الريفية"، يتضح أن الحلول الجذرية تبدأ من الإرادة السياسية وتنتهي بتضافر جهود الجميع وكل خطوة نحو تأمين حياة كريمة للمرأة الريفية هي خطوة نحو مجتمع عادل ومزدهر.
وإن هذا التحدي ليس مستحيلا كما قال البعض بل إنه فقط يتطلب منا جميعا أن نتشارك الرؤية والعمل لتحقيق ما يليق بمكانة المرأة ليس فقط في الريف بل في كل مكان، فالمستقبل لن يبنى إلا على أسس متينة تكون فيها كرامة الإنسان محور السياسات وخارطة الطريق للتقدم.