تعد ولاية قابس الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي لتونس إحدى أبرز المناطق الصناعية في البلاد، حيث يحتضن المجمع الكيميائي التونسي في منطقة غنوش الذي يسهم بشكل كبير في الاقتصاد الوطني من خلال إنتاج الفوسفات ومشتقاته، ومع ذلك فقد أصبح هذا المجمع مصدر قلق بيئي وصحي بالغ للسكان المحليين الذين يعانون يوميا من آثار الانبعاثات الصناعية والنفايات السامة ما جعلها تعرف بين الأهالي بـ"مدينة التلوث" و"جحيم الروائح".
ومن هذا المنطلق، تتجلى خطورة الوضع البيئي بشكل ملموس في الإحصاءات المتوفرة، إذ ينتج المجمع سنويا حوالي ثلاثة ملايين طن من الفوسفات مع خطط حكومية لزيادة الإنتاج إلى أربعة عشر مليون طن بحلول عام 2030،ط أي ما يقارب خمسة أضعاف الإنتاج الحالي، ورغم هذه الزيادة المخططة فإن المخاوف بشأن التأثيرات البيئية والصحية تتزايد خاصة مع تسجيل أكثر من ثلاثمائة حالة اختناق بسبب الأبخرة المنبعثة بما في ذلك خمسون حالة جماعية في مدرسة "شاطئ السلام"، وقد دفع ذلك الأهالي إلى تنظيم احتجاجات شعبية واسعة للمطالبة بتنفيذ القرارات القانونية ومعالجة الوضع البيئي.
هذا وتتعدد مصادر التلوث في قابس وتشمل التلوث الهوائي والمائي وتلوث التربة، إذ تصدر وحدات معالجة الفوسفات غازات سامة مثل ثاني أكسيد الكبريت وبعض المركبات الكيميائية التي تسبب الروائح والأبخرة المزعجة مما يؤثر مباشرة على نوعية الهواء وصحة السكان مسببة أمراضا تنفسية مزمنة وحادة مثل الربو وضيق التنفس، وفي الوقت نفسه تلقى نفايات الفوسفات المعروفة باسم الفوسفوجبس في البحر أو تخزن على الشواطئ مما يلوث المياه الجوفية والبحرية ويهدد الثروة السمكية بينما يتسبب تلوث التربة الناتج عن تسرب المواد الكيميائية الثقيلة مثل الرصاص في الإضرار بالزراعة وصحة الإنسان وبالتالي فإن هذه العوامل تتفاعل لتزيد من تفاقم الأزمات الصحية والاجتماعية في المنطقة.
وتشير الدراسات الحديثة إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة والسرطانية بين سكانها بما في ذلك سرطان الثدي والكبد والكلى والأنف والرئة فضلا عن شكاوى متكررة عن التشوهات الخلقية بين المواليد الجدد، كما يلفت الصيادون إلى انخفاض ملموس في الثروة السمكية نتيجة التلوث البحري بينما يعيش السكان شعورا دائما بعدم الأمان البيئي وسط الروائح والغازات المنبعثة من المجمع ما يؤثر سلبا على حياتهم اليومية ويزيد من التوتر الاجتماعي وهو ما يستدعي تدخلا عاجلا وفعالا من الجهات المختصة.
وعلى الصعيد القانوني والتنظيمي، يكرس دستور الجمهورية التونسية لعام 2022 في الفصل 47 الحق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ، حيث ينص على أن: "تضمن الدولة الحق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ. وعلى الدولة توفير الوسائل الكفيلة بالقضاء على التلوث البيئي."
ويعتبر هذا النص أساسا دستوريا يلزم الدولة بتوفير الوسائل اللازمة للحد من التلوث وحماية البيئة، بالإضافة إلى ذلك يعتبر القانون عدد 2009-49 المؤرخ في 20 جويلية 2009 من التشريعات البيئية الهامة حيث يركز على حماية المناطق البحرية والساحلية ويجرم التلوث الناتج عن الأنشطة الصناعية، كما صدر قرار وزاري في 29 جوان 2017 يقضي بتفكيك الوحدات الصناعية الملوثة التابعة للمجمع الكيميائي، ومع ذلك فإن التطبيق الفعلي لهذه التشريعات يظل محدودا بسبب تضارب المصالح بين الرغبة في زيادة الإنتاج ودعم الاقتصاد من جهة والمخاطر البيئية والصحية من جهة أخرى فضلا عن غياب الشفافية في نشر البيانات العلمية والإحصاءات الدقيقة والمراقبة البيئية والقانونية الضعيفة.
وفي هذا السياق، خرج السكان في احتجاجات شعبية أبرزها حركة "أوقفوا التلوث" التي طالبت بتنفيذ القرارات الوزارية وتعويض المتضررين ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات مؤكدين على أهمية حماية البيئة والصحة العامة، وقد أشار بعض المشاركين في الاحتجاجات إلى أن "قابس أصبحت مدينة موت يعاني الناس من صعوبة في التنفس ويعاني العديد من السكان من السرطان أو هشاشة العظام بسبب التلوث الشديد" وهو ما يعكس الواقع المرير للسكان المحليين ويبرز الحاجة الملحة لتدخل عاجل من جميع الجهات المعنية.
وبناء على ما سبق، تقترح مجموعة من الإجراءات لمعالجة أزمة التلوث بشكل فعال بدءا بتنفيذ القرار الوزاري لعام 2017 بشكل كامل عبر تفكيك الوحدات الملوثة وإغلاق الوحدات غير الملتزمة بالمعايير البيئية مع تحديد جدول زمني واضح ومراقبة مستقلة، كما يوصى بإعادة تصنيف مادة الفوسفوجبس كمادة خطرة إذا أثبتت الدراسات العلمية أضرارها وفرض عقوبات صارمة على الشركات المخالفة، كما تشمل الحلول تعزيز الشفافية من خلال نشر بيانات الانبعاثات وجودة الهواء والمياه والتربة بشكل دوري وإشراك المجتمع المدني في مراقبة التلوث وتقديم الرعاية الصحية المتخصصة للمتضررين من خلال مراكز طبية لمتابعة الأمراض المزمنة والسرطانية وإجراء دراسات علمية مستقلة لتحديد العلاقة بين التلوث والأمراض وتشجيع أنشطة بديلة صديقة للبيئة مثل السياحة والفلاحة البيولوجية والطاقة المتجددة، فضلا عن الاستثمار في تكنولوجيا نظيفة لمعالجة الغاز والنفايات الصناعية وفتح تحقيقات في حالات الاختناق والتسربات ومحاسبة المسؤولين وتطبيق القانون بنفس الحزم على جميع الشركات الصناعية.
وبالتالي، يتضح بشكل جلي أن أزمة التلوث في قابس ليست مجرد مشكلة بيئية عابرة بل تمثل نموذجا صارخا للتحديات البيئية والصحية والاجتماعية التي تواجه المناطق الصناعية في تونس، ومع استمرار الوضع دون تنفيذ القرارات القانونية وشفافية حقيقية ومساءلة صارمة فإن الأضرار ستتفاقم إلا أن تضافر جهود السلط المعنية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام والأجهزة التنفيذية يمكن أن يؤدي إلى تغيير حقيقي إذا ما توفرت الإرادة السياسية والموارد اللازمة لتتحول قابس من مدينة تعاني التلوث إلى نموذج للتنمية الصناعية المستدامة وحماية صحة الإنسان والبيئة على حد سواء.