اختر لغتك

المعتمد ظل الدولة وامتحان وفائها

المعتمد ظل الدولة وامتحان وفائها

في الذكرى 69 لانبعاث سلك المعتمدين وتحديدا يوم 21 جوان 2025، لا تقتصر المناسبة على بعد احتفالي أو استرجاع تاريخي بسيط لكنها تستدعي الغوص العميق في تركيبة الدولة التونسية وإعادة تفكيك معاني الانتماءوالإدارة والسيادة وأدوار الفاعلين الترابيين الذين مثلوا لعقود طويلة وجه الدولة الميداني وصمام أمانها في لحظات التحول وتجل حي لوجودها السيادي في كافة مناطق الجمهورية، ذلك أن سلك المعتمدين لم يكن يوما مجرد خط إداري ضمن الهيكلة العمومية لكنه  نتاج رؤية سياسية تأسيسية أقرها الزعيم الحبيب بورقيبة بمقتضى الأمر العلي المؤرخ في 21 جوان 1956، يوم تشكلت معالم الدولة الحديثة ورسمت حدود الوظيفة العمومية السيادية التي تلعب دور الوسيط بين الحكم والشعب.

وفي هذا السياق، نظمت الجمعية الوطنية لسلك المعتمدين يوم السبت 21 جوان 2025 بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لانبعاث سلك المعتمدين حفل استقبال رسمي بالفضاء الثقافي "المجلس" الكائن بسكرة – ولاية أريانة، تحديدا قبالة القباضة البلدية وذلك على الساعة العاشرة صباحا بحضور عدد من الإطارات الجهوية والوطنية واعضاء مجلس نواب الشعب وشخصيات من المجتمع المدني.

لكن وبين الانبعاث الأول والذكرى 69 يبرز فارق زمني عميق لا يقاس بالسنوات بقدر ما يقاس بالتغيرات الحاصلة في مفهوم الدولة والعلاقة بين السلطة المركزية والهياكل الترابية ومسارات اللامركزية التي رسمت دستوريا دون أن تتناغم فعليا مع منطق السيادة الميدانية؛ ومن هنا، فإن الحديث عن سلك المعتمدين في هذه اللحظة لا يمكن أن ينفصل عن المسألة الأعمق حول كيفية ادارة الدولة وجودها الميداني؟ وكيف تضمن استمراريتها في الجهات؟ ومن هم فعلا حراس الجمهورية من الداخل؟

اليوم، وبعد عقود من الخدمة والتفاني يجد سلك المعتمدين نفسه أمام مفارقة قاتلة من جهة يشاد بدوره في المحطات الكبرى من مقاومة الإرهاب، إلى إدارة الجوائح، إلى فرض تطبيق القانون، إلى تحريك التنمية المحلية وتنسيق أجهزة الدولة، ومن جهة أخرى يعامل بمنطق التهميش المقنع سواء من حيث التأطير القانوني أو من حيث الضمانات المهنية والاجتماعية أو حتى من حيث الاعتراف الرمزي.

ولعل أول ما يطرح في هذا السياق هو غياب القانون الأساسي المنظم للسلك وهو غياب لا يمكن تبريره بتعطل تشريعي أو ظرفي بقدر ما يعكس خللا جوهريا في أولويات الدولة، إذ لا يعقل أن يبقى ممثل السلطة المحلية الذي يجسد السيادة وينفذ السياسات العمومية بدون سند قانوني واضح يحدد بدقة مهامه، صلاحياته، مساره المهني، آليات تقييمه، وضمانات حمايته من التجاذبات السياسية أو الإدارية،اذ إن هذا الغياب يربك عمل الدولة أكثر مما يربك السلك نفسه لأنه يفتح الباب أمام التأويل والاجتهاد الفردي والازدواجية في الممارسات ويفرغ المنصب من روحه المؤسسية ويحوله إلى وظيفة قابلة للتسييس أو التسطيح.

ومن رحم هذا الفراغ القانوني، برزت إشكاليات أخرى أكثر إيلاما من بينها وضعية المعتمدين المنتهية مهامهم وخصوصا أولئك الذين لا ينتمون إلى سلك إداري آخر والذين وجدوا أنفسهم فجأة خارج المنظومة دون أي تمكين أو تأطير انتقالي أو تسوية اجتماعية، إذ إن هذا الوضع لا يعبر فقط عن تقصير إداري لكن عن جحود سياسي وأخلاقي لأن هؤلاء لم يقصروا بل خدموا الدولة ونفذوا قراراتها وتحملوا الضغوط الميدانية ودفعوا ثمن مواقفهم، واليوم وبعد أن أنهيت مهامهم تترك كفاءاتهم معلقة وأوضاعهم بلا أفق مما يؤسس لنوع جديد من التهميش داخل مؤسسات الدولة نفسها.

أكثر من ذلك، فإن الوضع الاجتماعي والمادي للمعتمدين المباشرين يشكل مصدرا آخر للألم والصراع الصامت، ففي ظل غلاء المعيشة وتدهور القدرة الشرائية وارتفاع الأعباء الإدارية والاجتماعية بقيت منحة التأجير مجمدة دون مراجعة جدية رغم التغيرات الكبرى التي طالت مختلف القطاعات، فكيف يطلب من المعتمد أن يكون قائدا ميدانيا ورمزا للسلطة ومحفزا على التنمية وفاعلا في فض النزاعات ومؤطرا للحياة المحلية وهو في الوقت نفسه لا يتمتع بوضع مادي لائق يحصن صورته ويعزز من ثقته في الدولة التي يمثلها؟ إن ضعف التأجير لا يضعف المعتمد فقط بل يضعف الدولة ذاتها لأنه يحول السلطة من أداة قوة إلى عبء ومن مصدر اعتزاز إلى عنوان هشاشة.

ومن بين الإشكاليات البنيوية التي تستحق التمعن كذلك غياب رؤية واضحة حول تموقع المعتمد في ظل المسار اللامركزي، فمع صعود المجالس المحلية، والجهوية، والأقاليم، برز تساؤل مشروع أين يبدأ دور المعتمد وأين ينتهي؟ وهل هو مجرد منفذ لسياسات جاهزة أم شريك في صناعة القرار المحلي؟ وهل تتم الاستفادة من خبراته في المجال الترابي أم يحول إلى أداة إدارية تكميلية بلا وزن سياسي أو تشاوري؟ هذه الأسئلة تحيل إلى خلل أعمق فالدولة لم تحسم إلى اليوم علاقتها بسلكها الترابي ولا رؤيتها الحقيقية لدور ممثليها في الجهات وهذا ما يخلق حالة من الغموض والتضارب وغياب التأطير المؤسساتي المتماسك.

ثمّة بعد نفسي وأخلاقي لا يقل خطورة فهناك شعور عند قطاع واسع من المعتمدين بأنهم لم يعودوا في صلب المشروع الوطني وأنهم يعملون تحت ضغط الانتظارات دون حماية ويواجهون المجتمع المحلي دون صلاحيات حقيقية ويكلفون بمهام تتجاوز إمكانياتهم دون موارد ثم يُحاسبون على نتائج لم يكن لهم فيها قرار، هذا الإحساس بالتهميش من داخل الدولة هو ما يولد فقدان الانتماء ويقوض القيم التي تأسست عليها الإدارة الترابية.

كما وإن استمرارية الدولة ليست شعارا يرفع في المناسبات لكنه منظومة متكاملة تبدأ من احترام موظفيها الميدانيين وتوفير البيئة القانونية والمادية والمعنوية التي تسمح لهم بالقيام بواجباتهم بكفاءة وكرامة ووضوح وسلك المعتمدين لا يطلب امتيازات خارجة عن المنطق بل يطلب فقط الإنصاف والاعتراف والتأطير والحماية.

وفي خضم هذه التحديات، يتجلى التكوين المستمر كعامل أساسي ومفصلي يعزز من قدرة المعتمدين على مجابهة تعقيدات أدوارهم المتنامية، إذ لم يعد المعتمد مجرد موظف إداري ينفذ الأوامر لكنه أصبح قائدا ميدانيا يحتاج إلى مهارات قيادية وقدرات تفاوضية ومعرفة معمقة بالقوانين والسياسات المحلية فضلا عن فهم دقيق للتحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي تواجه مناطقهم، ومع تصاعد تعقيدات الحوكمة المحلية يصبح التكوين ليس ترفا أو خيارا لكنه ضرورة حتمية لضمان فاعلية الأداء والاستجابة السريعة والناجعة لمتطلبات المجتمع وبدون تأهيل مستمر يواكب التحولات يبقى السلك عرضة للركود ويتراجع دوره الحيوي في تعزيز الدولة وتقوية روابطها الاجتماعية بين المركز والجهة.

ولأجل ذلك، فإن الحلول لا يجب أن تكون جزئية أو ترقيعية لكنها يجب أن تندرج ضمن رؤية شاملة تعيد الاعتبار إلى هذا السلك الحيوي، أولا عبر إصدار القانون الأساسي دون تأخير أو مماطلة ليحدد المهام والصلاحيات ويعيد هيكلة السلك وفق منظور جديد يتناغم مع مقتضيات الدولة الحديثة، ثانيا تسوية فورية وعادلة لوضعيات المعتمدين المنتهية مهامهم سواء عبر الإدماج في وظائف مناسبة أو منح تعويضات تحفظ كرامتهم، ثالثا مراجعة جدية لمنح التأجير والتغطية الاجتماعية بما يواكب التحولات الاقتصادية ويعزز من جاذبية السلك، رابعا إطلاق حوار وطني استراتيجي حول الوظيفة الترابية في تونس ودور المعتمدين في التنمية والأمن والتماسك الاجتماعي والإدارة اليومية للدولة، خامسا تعزيز برامج التكوين والتأهيل المستمر بما يضمن تطوير مهارات المعتمدين وقدرتهم على مواجهة تحديات الواقع المتغير بكفاءة وفعالية.

ففي نهاية المطاف، لا يمكن الحديث عن إصلاح الدولة أو عن تعزيز الحكم المحلي أو عن بناء مشروع وطني عادل دون الاعتراف الصريح بأن المعتمد هو حجر الزاوية في هذا  البناء وأن ما يصيبه من تهميش أو إنهاك هو بالضرورة ما يصيب الدولة ذاتها والاحتفال بالذكرى 69 لايجب أن يختزل في كلمات شكر أو لوحات تكريم إنما يجب أن يتحول إلى لحظة تأسيس جديدة يقر فيها الجميع بأن الوفاء الحقيقي للوطن يبدأ من الوفاء لأبنائه الذين جعلوا من خدمتهم له قدرا لا وظيفة.

آخر الأخبار

التكوين كمدخل لاستعادة العدالة الغائبة في جندوبة 

التكوين كمدخل لاستعادة العدالة الغائبة في جندوبة 

المعتمد ظل الدولة وامتحان وفائها

المعتمد ظل الدولة وامتحان وفائها

🔴 ثقة المنخرطين تحسمها الأرقام: محسن الطرابلسي رئيسًا للنادي الإفريقي لثلاث سنوات قادمة!

🔴 ثقة المنخرطين تحسمها الأرقام: محسن الطرابلسي رئيسًا للنادي الإفريقي لثلاث سنوات قادمة!

الفريق التركي بوشكتاش لكرة الطائرة يرغب في انتداب اللاعبة التونسية دعاء الشماخي

الفريق التركي بوشكتاش لكرة الطائرة يرغب في انتداب اللاعبة التونسية دعاء الشماخي

"كأننا في خان يونس"... ضابط إسرائيلي يشبّه دمار تل أبيب بجحيم غزة!

"كأننا في خان يونس"... ضابط إسرائيلي يشبّه دمار تل أبيب بجحيم غزة!

Please publish modules in offcanvas position.