في ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم لم تعد الرياضة نشاطا تنافسيا محضا بل أضحت قطاعا استراتيجيا متعدد الأبعاد يتقاطع فيه الاقتصادي بالاجتماعي، والبيئي بالرقمي والتشريعي بالحوكمي، وفي هذا الإطار انعقدت الندوة الدولية الثانية حول “الرياضة، إدارة المخاطر، والاستدامة” التي نظمتها المبادرة العالمية للحوكمة والاستدامة (GIGS) بالشراكة مع مبادرات دولية متخصصة في الحوكمة والاستدامة العالمية لتؤكد هذا التحول البنيوي في فهم الرياضة ودورها في التنمية المستدامة.
وقد جمعت هذه الندوة نخبة رفيعة المستوى من الخبراء وصناع القرار وممثلي المنظمات الدولية من بينهم ممثلون عن اللجنة الأولمبية الدولية (IOC) وجامعات رياضية وطنية ومراكز بحث متخصصة في التنمية المستدامة والحوكمة وإدارة المخاطر، وتركزت النقاشات حول التحديات العالمية التي تهدد استدامة القطاع الرياضي وعلى رأسها إدارة المخاطر المالية والبيئية والقانونية وتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد وترسيخ الأخلاقيات الرياضية لضمان نزاهة المنافسات فضلا عن إدماج الاستدامة البيئية والاجتماعية في صميم السياسات الرياضية.
وفي هذا السياق، شددت الندوة على خطورة المخاطر البيئية المرتبطة بالتغير المناخي والتلوث حيث تشير تقارير منظمة الصحة العالمية (WHO) إلى أن التلوث الهوائي يتسبب في أكثر من 8 ملايين حالة وفاة مبكرة سنويا وهو ما ينعكس سلبا على صحة الرياضيين وأدائهم خاصة في الرياضات الخارجية، وهو ما يستدعي وفق المتدخلين تفعيل التزامات الدول المنصوص عليها في اتفاقية باريس للمناخ لسنة 2015 التي تلزم بخفض الانبعاثات الكربونية في جميع القطاعات بما في ذلك قطاع الرياضة من خلال اعتماد الطاقات المتجددة وتحسين كفاء الطاقة والحد من النفايات.
وأكد المشاركون أن الرياضة تمثل أداة مركزية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة 2030 (SDGs) خاصة الهدف الثالث المتعلق بالصحة الجيدة والهدف الرابع المتعلق بالتعليم الجيد والهدف الخامس الخاص بالمساواة بين الجنسين والهدف الثالث عشر المتعلق بالعمل المناخي، وقد أبرزت الندوة أهمية إدماج الرياضة ضمن السياسات العمومية للتنمية باعتبارها وسيلة فعالة لتعزيز الإدماج الاجتماعي ومقاومة الإقصاء وتمكين الفئات الهشة بما في ذلك الأشخاص ذوي الإعاقة وسكان المناطق النائية.
وعلى مستوى الحوكمة، تم التأكيد على ضرورة اعتماد المبادئ الأساسية للحوكمة الجيدة كما وردت في وثيقة اللجنة الأولمبية الدولية لسنة 2008 التي تقوم على الشفافية والديمقراطية والمساءلة والفصل بين السلط ومنع تضارب المصالح، كما تمت الإشارة إلى تجارب تشريعية مقارنة من بينها قانون Ted Stevens Olympic and Amateur Sports Act لسنة 1978 بالولايات المتحدة الأمريكية الذي ينظم عمل المنظمات الرياضية غير الربحية ويكرس مبادئ الحوكمة والمساءلة وحماية الرياضيين.
وفي محور إدارة المخاطر والاستراتيجية والقيادة تمت مناقشة أهمية التخطيط الاستراتيجي طويل المدى واعتماد أدوات تحليل علمية مثل تحليل SWOT (نقاط القوة، نقاط الضعف، الفرص، التهديدات) وتطبيق معايير ISO 31000 الدولية لإدارة المخاط، بما يشمل المخاطر التشغيلية، المالية، القانونية والسمعية، كما تم التطرق إلى ضرورة إعداد خطط طوارئ لمواجهة الأزمات الكبرى مثل الجوائح والكوارث الطبيعية التي أثبتت جائحة كوفيد-19 تأثيرها العميق على استدامة الأحداث الرياضية عالميا.
وفي هذا السياق كشفت إحصائيات Nielsen أن 85% من المهنيين في القطاع الرياضي يعترفون بأن الاستدامة عنصر مهم في الاستراتيجية التجارية في حين لا يعتبرها 36% فقط أولوية حيوية وهو ما يعكس فجوة حقيقية بين الوعي النظري والتطبيق العملي، كما تمت الإشارة إلى أهمية الالتزام بتشريعات الإفصاح البيئي والاجتماعي والحوكمي (ESG) وخاصة توجيهات الاتحاد الأوروبي للإبلاغ عن الاستدامة (CSRD) التي تلزم المؤسسات بالكشف عن مخاطرها البيئية والاجتماعية وتأثيراتها.
أما جلسة البنى التحتية والتحول الرقمي والابتكار التكنولوجي فقد ركزت على جعل الرياضة رافعة للابتكار والإدماج من خلال تطوير ملاعب مستدامة تعتمد مواد صديقة للبيئة واستخدام الطاقة الشمسية وأنظمة إعادة التدوير وتعزيز البنية الرقمية عبر شبكات 5G وFTTH والبث عبر منصات OTT واستعمال الذكاء الاصطناعي لتحليل الأداء الرياضي والواقع الافتراضي والمعزز (VR/XR) لتحسين تجربة الجماهير وإنترنت الأشياء (IoT) لمراقبة صحة وسلامة الرياضيين.
كما تمت مناقشة قضايا الأمن السيبراني وحوكمة البيانات في ظل تصاعد الهجمات الرقمية وضرورة الامتثال لتشريعات حماية المعطيات الشخصية وعلى رأسها اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) في الاتحاد الأوروبي، وتم التطرق كذلك إلى النماذج الاقتصادية الناشئة مثل الاقتصاد الرقمي الرياضي والاشتراكات الرقمية والرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs) كوسائل جديدة لتمويل الرياضة وتعزيز علاقتها بالجماهير.
وفي هذا الإطار، تشير بيانات مؤشر الرياضة المستدامة إلى أن 86% من المنشآت الرياضية لديها راع أو برنامج مخصص للاستدامة و55% تنظم تدريبات سنوية للموظفين حول الاستدامة في حين أن 28% فقط تنتج طاقة متجددة في الموقع وهو ما يعكس الحاجة إلى تعزيز التشريعات الداعمة للطاقات النظيفة مثل قانون الطاقة الأمريكي لسنة 2022.
واختتمت الندوة بالتأكيد على أن الرياضة قادرة على تقليص النفايات وتعزيز الاقتصاد الدائري حيث تشير التقديرات إلى أن مباراة كرة قدم أمريكية واحدة قد تنتج نحو 35 طنا من النفايات ما يفرض سياسات بيئية صارمة، كما أظهرت دراسة حديثة نشرتها Forbes أن 66% من مشجعي كرة القدم يرون أن الجهود المبذولة لتحسين الاستدامة في الرياضة غير كافية.
Mezrigui
وعلى الصعيد الوطني، يندرج هذا المسار العالمي ضمن الإصلاحات التشريعية التي يشهدها القطاع الرياضي في تونس من خلال مشروع القانون الأساسي عدد 057 لسنة 2025 المتعلق بالهياكل الرياضية الذي يهدف إلى إلغاء وتعويض القانون الأساسي عدد 11 لسنة 1995 المؤرخ في 6 فيفري 1995، ويأتي هذا المشروع استجابة لجملة من الإشكاليات أبرزها سوء التصرف في المرافق الرياضية العمومية وتفشي الفساد وضعف الحوكمة وعدم مواكبة التشريع القديم للمعايير الدولية.
وقد تمت مناقشة هذا المشروع في عدة مجالس وزارية من بينها مجلس 29 نوفمبر 2025 برئاسة رئيسة الحكومة وقبله مجالس في جوان 2025 حيث تم إدخال تعديلات بناء على ملاحظات الوزارات والهياكل المعنية، ويرتكز المشروع على مبادئ الشفافية ومكافحة الفساد والفصل الواضح بين الاحتراف والهواية وتعزيز استقلالية الهياكل الرياضية وجعل الرياضة رافعة اقتصادية واجتماعية تخلق فرص العمل وتدعم التنمية المستدامة.
كما ينسجم هذا المشروع مع توجهات رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي شدد في أكثر من مناسبة على ضرورة تطهير القطاع الرياضي من الشبكات الهجينة وضمان احتراف حقيقي وهواية نقية بما يخدم الإشعاع الوطني في المحافل الدولية، ويرتبط المشروع أيضا بمبادرات تشريعية أخرى مثل مقترح القانون عدد 083 لسنة 2025 المتعلق بمكافحة العنف في الملاعب بما يعكس مقاربة شاملة لإصلاح المنظومة الرياضية.
ورغم أن المشروع لا يزال في طور النقاش البرلماني إلا أنه يمثل فرصة تاريخية لإرساء نظام رياضي تونسي حديث يستجيب للمعايير الأولمبية الدولية ويحقق التوازن بين الأداء الرياضي، والحماية القانونية والمسؤولية الاجتماعية والاستدامة البيئية.
وهكذا، تتقاطع خلاصات الندوة الدولية الثانية مع مشروع إصلاح الهياكل الرياضية في تونس.لتؤكد أن مستقبل الرياضة وطنيا ودوليا لم يعد يقاس فقط بعدد الألقاب والميداليات بل بمدى احترام مبادئ الحوكمة الرشيدة والالتزام بالتشريعات العصرية والقدرة على جعل الرياضة أداة فاعلة للتنمية المستدامة والوحدة الوطنية والإشعاع الدولي .



