اختر لغتك

مسؤولية التصرف العمومي القانون والرقابة في مواجهة التعقيد

مسؤولية التصرف العمومي القانون والرقابة في مواجهة التعقيد

مسؤولية التصرف العمومي القانون والرقابة في مواجهة التعقيد

في ظل تعقيد منظومة الدولة وتعدد أجهزتها يظل التصرف العمومي مجالا يكتنفه التشابك القانوني والإداري حيث تتداخل فيه مقتضيات المسؤولية وحدود السلطة وآليات الرقابة في مواجهة التحديات المتجددة التي يواجهها المتصرف العمومي، إذ لا يقتصر الأمر على مجرد تنفيذ مهام إدارية روتينية لكنه يتجاوز ذلك إلى مواجهة ازدواجية النصوص وغموض المآلات القانونية ما يجعل الأخطاء في التصرف العمومي ظاهرة ليست عرضية أو عابرة بل دلالة على خلل جوهري في بنية الحوكمة الإدارية والثقافية، ومن ثم فإن التعاطي مع هذه الإشكالية يستدعي وقفة قانونية معمقة ومراجعة نقدية لمفاهيم المسؤولية وموضعها ضمن آليات الدولة الحديثة.

وقد شكلت الدورة التكوينية التي نظمتها جمعية "أكسيا"  فضاء حيويا للنقاش المتخصص حول جملة الإشكالات المتعلقة بالأخطاء في التصرف العمومي وسبل تعامل المتصرف والهيكل الرقابي معها، حيث أبدعت السيدة علياء البراطلي القاضية ورئيسة الدائرة المكلفة بالزجر المالي بمحكمة المحاسبات والسيد عادل غزي المراقب العام ورئيس قسم التدقيق بالهيئة العامة لمراقبة المصاريف العمومية في إثراء النقاش بمداخلات قانونية دقيقة مستعرضين القضايا الأساسية بمنهجية تحليلية متعمقة.

ومن الضروري التوقف عند التعريفات القانونية التي تؤسس للفهم الواضح لهذا المجال، إذ يعرف التصرف العمومي قانونيا بأنه كل عمل صادر عن جهة أو شخص عمومي في إطار وظائفه الإدارية يتصل بإدارة المال العام أو تقديم الخدمات العمومية ويخضع لمبادئ القانون الإداري المنظم لهذه الوظائف، كما نصت عليها قوانين الوظيفة العمومية (قانون رقم 98 لسنة 2018) والنظام الأساسي لأعوان الدولة والمؤسسات العمومية (قانون رقم 97 لسنة 2018) ويعد الخطأ في التصرف العمومي وفقا للمادة 2 من القانون الأساسي رقم 109 لسنة 2015 المتعلق بمحكمة المحاسبات كل مخالفة صريحة للقواعد القانونية أو الإدارية تسبب إلحاق ضرر مالي أو معنوي بالمرفق العمومي ناشئة عن إهمال أو تقصير أو جهل بالقانون أو سوء نية ويترتب عليه تحمل المسؤولية المالية أي الزجر المالي، كما هو منصوص عليه في مجلة المحاسبة العمومية رقم 297 لسنة 2015 وخاصة في مادتها 37 التي تفرض تحميل الأعوان المتسببين تعويضات مالية عن الأضرار الناجمة دون اشتراط وجود نية جنائية.

 

ولا تقل المسؤولية الجزائية أهمية فهي تغطي الجرائم المالية والإدارية المنصوص عليها في مجلة الجزاء التونسية (القانون عدد 69 لسنة 1913 المعدل) والتي تشمل اختلاس الأموال العامة، التزوير، سوء استعمال السلطة، ويعززها قانون مكافحة الفساد رقم 46 لسنة 2019 الذي يفرض عقوبات مشددة رادعة، وعلى صعيد الرقابة يبرز دور الرقابة الإدارية التي تمارسها الأجهزة الإدارية المختصة لضمان تطبيق القوانين واللوائح والرقابة القضائية التي تمارسها محكمة المحاسبات وفق القانون الأساسي رقم 109 لسنة 2015 حيث تتحقق من سلامة التصرف المالي والإداري وتحاسب الأعوان عن التجاوزات.

ومن جهة أخرى، يأتي قانون رقم 96 لسنة 2018 المتعلق بالمناقصات العمومية كأحد الركائز الأساسية لتنظيم الصفقات العمومية حيث يفرض ضوابط صارمة لضمان الشفافية والتنافسية وترشيد الإنفاق وهو عنصر أساسي لمنع الأخطاء والفساد في التصرف المالي، أما قانون رقم 62 لسنة 1989 الخاص بالميزانية العامة للدولة فهو الإطار القانوني الذي يؤطر إعداد وتنفيذ الميزانية ويضمن التوازن المالي للدولة من خلال تنظيم الموارد والنفقات، بينما يحدد قانون رقم 97 لسنة 2018 النظام الأساسي لأعوان الدولة والمؤسسات العمومية حقوق وواجبات الموظفين العموميين ضمن بيئة قانونية واضحة، ويعزز قانون رقم 98 لسنة 2018 تنظيم الوظيفة العمومية قواعد التوظيف والترقية والتأديب مع مراعاة مبادئ الحوكمة ولا يمكن إغفال قانون رقم 172 لسنة 2005 المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة الذي يعزز الشفافية ويرسخ مشاركة المواطن في الرقابة الشعبية.

على الرغم من هذه المنظومة القانونية المتكاملة إلا أن الواقع يعاني من تضارب النصوص التشريعية والتنظيمية ما يخلق غموضًا في تحديد المسؤوليات ويتيح مجالا لتأويلات قد تسهل وقوع الأخطاء أو تغطية التجاوزات، كما يزداد الأمر تعقيدا نتيجة نقص التكوين القانوني والمهني المستمر للأعوان العموميين ما يؤدي إلى سوء فهم النصوص وعدم القدرة على تطبيقها بشكل صحيح في ظل ضعف الرقابة الداخلية وضعف التنسيق بين الهيئات الرقابية المختلفة، إضافة إلى قلة استغلال التكنولوجيا الرقمية في الرقابة.وهو ما يحد من فاعلية التدقيق والكشف المبكر عن المخالفات.

ولا تقتصر هذه التحديات على القطاع العام بل تمتد إلى العلاقة المتشابكة مع القطاع الخاص خاصة في إطار الشراكات والصفقات التي تجمع بين القطاعين حيث يشكل غياب منظومة قانونية متجانسة وواضحة لتنظيم هذه العلاقة معضلة حقيقية تعيق الرقابة الشاملة على الأموال العامة ما يفتح الباب أمام الفساد وسوء التصرف، فبرغم وجود قانون المناقصات رقم 96 لسنة 2018 إلا أن غياب قوانين وإجراءات دقيقة لتنظيم ومراقبة الشراكات بين القطاعين يجعل من الضروري تطوير أطر قانونية شاملة تعزز المساءلة والشفافية.

ولذا، يبرز جليا ضرورة توحيد وتبسيط النصوص القانونية عبر لجان تشريعية مختصة تعمل على إزالة التضارب وتوضيح المسؤوليات إلى جانب إطلاق برامج تدريبية قانونية مهنية دورية تستهدف رفع كفاءة الأعوان في القطاعين العام والخاص على حد سواء مع تفعيل نظم الرقابة الداخلية وتعزيز التعاون والتنسيق بين الهيئات الرقابية عبر منصات تقنية تسمح بتبادل المعلومات بشكل شفاف وفعال، كما يتعين الاستثمار في البنية التحتية الرقمية لضمان رقابة آنية وتحليل متقدم للمخاطر فضلا عن التطبيق الصارم لقانون النفاذ إلى المعلومة الذي يمثل ركيزة أساسية لترسيخ مبدأ الشفافية وتعزيز ثقة المواطن.

إن هذه المعالجات القانونية والإدارية تفتح الباب أمام طرح تساؤلات جوهرية حول كيفية وضع صياغة قانونية واضحة تمنع التداخلات النصية وتغلق ثغرات التأويل؟ ما هي الاستراتيجيات التعليمية والتدريبية التي تضمن تطوير مستدام لكفاءة الأعوان؟ كيف نعيد هيكلة منظومة الرقابة لجعلها أكثر فاعلية واستباقية؟ وما هي الأدوات الرقمية والتقنية التي يمكن توظيفها لتعزيز الرقابة المالية في الزمن الحقيقي؟ وأخيرا كيف نضمن منظومة قانونية وإدارية متكاملة تحمي المال العام وتعزز الثقة بين المواطن والدولة؟

هذه الأسئلة ليست مجرد نقاط نقاش لكنها هي مفاتيح لإصلاح حقيقي وشامل لمنظومة التصرف العمومي التي لا يمكن أن تنجح إلا بتضافر جهود التشريع والتنفيذ والرقابة في إطار قانوني مؤسساتي راسخ يعزز العدالة والمساءلة ويحمي المال العام ويواكب التطورات الاقتصادية التي يتطلبها التكامل بين القطاعين العام والخاص في دولة حديثة متطورة.

آخر الأخبار

بعد 20 عامًا في الغيبوبة... وفاة "الأمير النائم" تهز المملكة

بعد 20 عامًا في الغيبوبة... وفاة "الأمير النائم" تهز المملكة

مسؤولية التصرف العمومي القانون والرقابة في مواجهة التعقيد

مسؤولية التصرف العمومي القانون والرقابة في مواجهة التعقيد

⚽ شرف الدين عون ينضم رسميًا للإفريقي: خطوة مدروسة لدعم وسط الميدان

⚽ شرف الدين عوني ينضم رسميًا للإفريقي: خطوة مدروسة لدعم وسط الميدان

تسرّب الأسرار وتكاثر "المصادر المقرّبة": من ينهش جسد الإفريقي من الداخل؟

تسرّب الأسرار وتكاثر "المصادر المقرّبة": من ينهش جسد الإفريقي من الداخل؟

طبرقة تشتعل فنًا وصوفية ورابًا: مهرجان دولي بنكهة استثنائية هذا الصيف!

طبرقة تشتعل فنًا وصوفية ورابًا: مهرجان دولي بنكهة استثنائية هذا الصيف!

Please publish modules in offcanvas position.