في إطار الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان انعقد في معهد الدراسات العليا بتونس المؤتمر العلمي الدولي الثاني حول الهجرة النظامية، تحت شعار «مقاربات قانونية وإنسانية من أجل هجرة نظامية» بتنظيم مشترك بين الجمعية الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان والإعلام والمعهد، وقد جمع المؤتمر خبراء قانونيين، أكاديميين، باحثين وإحصائيين من تونس وإيطاليا وفرنسا والجزائر وليبيا بالإضافة إلى ممثلين عن مؤسسات الدولة المسؤولة عن الهجرة والتشغيل والتعاون الدولي في حضور رسمي وأكاديمي واسع ما أتاح تبادل الخبرات والمقاربات القانونية والحقوقية حول ملف الهجرة المعقد الذي يواجه تونس على عدة أصعدة.
هذا وكشف المشاركون عن حجم التحديات الكبيرة بدءا من الهجرة النظامية وغير النظامية إلى نزيف الكفاءات وتداعياته على الاقتصاد الوطني، فقد غادر أكثر من 120 ألف تونسي البلاد بطريقة نظامية خلال السنوات الخمس الأخيرة معظمهم من أصحاب الكفاءات العالية مثل الأطباء والمهندسين والتقنيين المتخصصين، وأظهرت بيانات المنظمة الدولية للهجرة أن تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا والمرتبة السادسة عشرة عالميًا في تصدير الأدمغة وفق تقرير 2024 وعلى النقيض من ذلك يقيم في تونس أكثر من 80 ألف مهاجر نظامي من جنسيات مختلفة نصفهم تقريبا من دول جنوب الصحراء إضافة إلى جالية أوروبية متنامية، لا سيما من إيطاليا وفرنسا، وفي السياق نفسه بلغت أعداد التونسيين الذين هاجروا بطريقة غير نظامية عبر البحر المتوسط أكثر من 17 ألف شخص خلال عام 2025 وفق إحصاءات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ما يوضح حجم التحديات المستمرة.
وأبرز المشاركون أن الإطار القانوني الحالي في تونس القائم على القانون عدد 7 لسنة 1968 المتعلق بحالة الأجانب والقانون عدد 40 لسنة 1975 المتعلق بجوازات السفر وبطاقات الهوية لم يعد قادرا على مواكبة التحولات في أنماط الهجرة المتنوعة سواء بالنسبة للمهاجرين النظاميين أو طالبي اللجوء، ولا تزال تونس منذ عام 2014 بلا قانون شامل للجوء رغم توقيعها على اتفاقية جنيف 1951 والبروتوكول الملحق بها سنة 1967 وما زال مشروع قانون اللجوء المعروض على مجلس نواب الشعب منذ 2021 معلقا مما يترك آلاف طالبي اللجوء في وضع قانوني هش ويحدّ من قدرتهم على الحصول على الحماية والمساعدة القانونية الأساسية.
كما استعرض المؤتمر التجارب الدولية المقارنة لاسيما الإيطالية التي شهدت إصلاحات جذرية في قوانين الهجرة خلال السنوات الأخيرة بما في ذلك اعتماد مرسوم “كوتا” السنوي للعمالة المهاجرة وإجراءات سحب الجنسية في حال ارتكاب جرائم خطيرة، إضافة إلى اتفاقيات إعادة القبول مع دول المصدر. كما تم التطرق إلى معاهدة برشلونة لعام 1995 وما تلاها من عمليات الشراكة الأورو-متوسطية التي كان من المفترض أن تؤسس لهجرة منظمة وآمنة ومنتجة بين ضفتي المتوسط لكن النتائج بقيت دون الطموح، وتركزت النقاشات أيضا على الهجرة في المناطق الحدودية التونسية حيث تتقاطع الاعتبارات الأمنية والإنسانية إلى جانب معالجة واقع الجاليات التونسية المقيمة في الخارج التي تواجه تحديات اندماجية وقانونية في البلدان المستقبلة مع تسليط الضوء على دور الإعلام في تقديم صورة دقيقة ومسؤولة عن واقع المهاجرين واللاجئين بعيدا عن خطاب الكراهية والتحريض.
وشكل نزيف الكفاءات أحد أبرز المحاور التي نوقشت حيث غادر قطاع الصحة وحده أكثر من 8500 طبيب وممرض منذ عام 2011، ما يعادل نحو 35% من إجمالي الأطباء النشطين في حين تقدر تكلفة تكوين طبيب واحد في تونس بحوالي 600 ألف دينار ما يعني خسارة مليارات الدنانير سنويا لصالح الدول المستقبلة مثل فرنسا وألمانيا وكندا ودول الخليج وهو ما يؤكد أهمية تبني سياسات وطنية تشجع على الهجرة الدائرية والاستفادة من الكفاءات بدلاً من فقدانها نهائيًا.
في المقابل، خرج المؤتمر برؤية متكاملة للتعامل مع الهجرة حيث شدد المشاركون على ضرورة الإسراع في سن قانون شامل للجوء يتماشى مع المعايير الدولية وإصدار قانون جديد للهجرة النظامية يأخذ بعين الاعتبار حاجيات سوق الشغل الوطنية والدولية وإحداث آلية وطنية لمتابعة التونسيين المقيمين بالخارج وتشجيع الهجرة الدائرية (Circular Migration)،كما أكد المشاركون على تعزيز التعاون مع دول الجوار مثل ليبيا والجزائر ومع الاتحاد الأوروبي للحد من الهجرة غير النظامية مع ضمان احترام حقوق الإنسان وإدراج ملف الهجرة ضمن الأولويات الوطنية في مجالي التعليم العالي والتشغيل إلى جانب إنشاء قاعدة بيانات وطنية موحدة لضبط الإحصائيات المتعلقة بالمهاجرين واللاجئين ووضع أطر إنسانية صارمة للتعامل مع المهاجرين في المناطق الحدودية مع تطوير الخطاب الإعلامي لمكافحة التحريض العنصري وتقديم سرديات دقيقة ومسؤولة حول الهجرة.
وفي ختام المؤتمر، كرم المنظمون عددا من الشخصيات الوطنية والدولية الداعمة لقضايا الهجرة النظامية وحقوق المهاجرين وتضمنت الفعاليات زيارة المعرض التشكيلي للفنان مراد الحرباوي المقام في بهو المعهد في إشارة رمزية إلى ربط الثقافة والفنون بقضايا التنمية وحقوق الإنسان، ويأتي هذا المؤتمر ليؤكد التزام تونس بتطوير سياسة هجرة شاملة تستند إلى القانون وحقوق الإنسان وتحويل الهجرة من مصدر نزيف بشري واقتصادي إلى رافعة للتنمية المستدامة بما يضمن حماية الكرامة الإنسانية لكل مهاجر أو طالب لجوء مهما كانت جنسيته أو وجهته في اليوم الذي يحتفل فيه العالم بحقوق الإنسان.



