في جندوبة لا تكون التنمية شعارا لكنه إمتحانا صارما لمصداقية الدولة وقدرتها على إعادة الاعتبار للمعنى لا فقط للبنية التحتية أو مؤشرات التشغيل، ففي هذه الجهة التي حملت لعقود فائضا من الصبر ونقصا في الانصات تبدو كل مبادرة موجهة للشباب وكأنها تحاول أن تكتب ولو مؤقتا سطرا خارج الرواية الرسمية المعتادة، وما المبادرة التي أطلقتها المنظمة الدولية للهجرة (OIM) بتنظيم أيام مفتوحة حول التكوين والإدماج المهني من 22 إلى 24 جوان إلا لحظة مركبة تتجاوز بعدها التقني لتطرح على السطح أسئلة لم تعد تحتمل التأجيل حاول من يخاطب من؟ ومن يملك حق بناء الأفق؟
هذا وتعد اللقاءات المزمع تنظيمها في دور شباب عين دراهم، طبرقة، جندوبة، بوسالم، وغار الدماء، لا تقرأ فقط كأنشطة تحفيزية لكنها كتمرين رمزي بالغ الأهمية على تفكيك جغرافيا الإقصاء، فاختيار هذه الفضاءات التي لطالما تم تهميشها لا فقط على مستوى الفعل بل على مستوى التخيل الوطني ذاته هو بحد ذاته موقف سياسي، فالدولة التي تنزل إلى الأطراف لا لمراقبة الغضب بل لمرافقته وتحويله تعترف ضمنيا بأن الخلل لم يكن في الشاب إنما في منظومة قررت لعقود أن المركز وحده من يستحق القرار والمصير.
وليست المسألة مرتبطة بمجرد تمكين مهني لكن بإعادة صياغة العلاقة بين الفرد والمؤسسة، بين الشاب والدولة، على قاعدة جديدة تتجاوز المنطق الرعوي الذي لطالما حكم السياسات العمومية، فالإدماج هنا لا يقاس بعدد المستفيدين ولكن بمدى إعادة هندسة العلاقة مع الزمن والفرصة، مع الفضاء العام الذي تحول لزمن طويل إلى فراغ مقصود، فجندوبة لا تعاني فقط من التهميش الاقتصادي انما من عزلة رمزية أعمق عزلة تنتج شعورا جماعيا بأنهم وضعوا خارج الخريطة لا لأنهم لا يملكون الإمكانيات بل لأن الخريطة صممت لتقصيهم.
وفي هذا الإطار، تتحول الأيام المفتوحة إلى لحظة مكاشفة لا فقط حول التشغيل والتكوين بل حول مصير الشباب الذين صاروا في لا وعي الدولة مشاريع ترحيل صامت إما إلى العاصمة أو إلى البحر وهنا تبرز أهمية المبادرة فهي ليست مجرد محاولة لتعديل الخلل لكنها لتسمية المشكل باسمه والإقرار بأن الخلل ليس عابرا بل بنيوي.
ما يجري اليوم ليس نشاطا ميدانيا بقدر ما هو إعلان ولو ضمني عن انطلاق ورشة رمزية لتفكيك المركزية لا عبر الخطابات ولكن عبر النزول الميداني المنصت، فحين تتحول دار الشباب إلى نقطة تفاعل حي بين من يمثل المؤسسات الدولية ومن يمثل تطلعات الداخل نكون إزاء لحظة تصالح مع مفهوم الدولة الرؤوفة لا الدولة الغائبة أو المهيمنة.
لكن السؤال الأعمق يظل قائما فهل تمتلك هذه المبادرة قوة الاستمرار؟ وهل تلتقط من قبل الفاعلين المحليين كفرصة لإعادة رسم خارطة تدخل جديد لا تقاس بالأرقام ولكن بالأثر؟ لأن فشل هذا النوع من المبادرات لا يكمن في محدودية الإمكانيات بل في تحويلها إلى حدث عابر، إلى لحظة معزولة عن بنية القرار فيتضاعف الإحباط أكثر مما تبنى الثقة.
جندوبة اليوم لا تطالب بامتيازات ولكنها باستعادة الحق في الحلم الوطني، تطلب أن يكون الشباب فيها مرئيين لا كأرقام في تقارير المانحين بل كصناع مسارات جديدة والعدالة هنا لا تختزل في التكوين أو التشغيل ولكن في إعادة الاعتراف، في إعادة توزيع الأمل كما توزع الميزانيات.
ختاما، إن المبادرة رغم بساطتها الظاهرة تحمل بداخلها بذرة مشروع جمهوري حقيقي يسعى بصفة غير مباشرة على أن لا يبقى المركز هو مرآة الوطن بل أن تنعكس صورة الدولة في كل جهة بكل تنوعها، بوجوه شبابها، بطموحات المهمشين، وبصوت الذين ينتظرون منذ عقود فرصة واحدة فقط ليثبتوا أن العدل ليس شعارا لكنه حق وأن التمكين لا يمنح لكنه يبنى حين تكون الدولة شريكة في الإنصات لا في الإنكار.