في رحاب مدينة الثقافة بتونس حيث تتلاقى الأصالة مع زخم الحداثة انطلقت فعاليات "المنتدى الوطني السادس لـ Convergences Tunisie" الذي نظمته جمعية ACTED تونس وهي منظمة دولية عريقة ملتزمة بقضايا التنمية المستدامة والتضامن الاجتماعي، إذ ومن خلال دعم وتنسيق مع وزارة البيئة وزارة الشؤون الثقافية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، ووكالة التعاون الدولي الألماني GIZ، اجتمع أكثر من 350 مشاركا من مختلف أنحاء تونس وخارجها، شملوا خبراء، ممثلين رسميين، ناشطين بيئيين، رواد أعمال، أكاديميين، وأعضاء من البلديات الشابة ليشكلوا بذلك نسيجا حيا من الطاقات المتجددة التي تعكس نبض التحول الوطني في مجالات الحوكمة المستدامة، الاقتصاد الدائري، والعدالة الاجتماعية.
تزامنا مع افتتاح المنتدى استقبل المشاركون في قاعات "مسرح الجهات"، "قاعة طاهر شريعة"، و"قاعة صوفي القلي" حيث جاءت كلمة ممثلة وزارة البيئة التونسية لتؤكد على الحاجة الملحة لتغيير جذري في نمط التنمية الوطني، فمن جهة أبرزت أهمية دمج الاقتصاد الدائري والاقتصاد الاجتماعي والتضامني في صلب الاستراتيجية الوطنية مشيرة إلى أن تحقيق أهداف الإستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة 2030 يتطلب حوكمة شفافة، ومسؤولية متبادلة بين الدولة، القطاع الخاص، والمجتمع المدني، ومن جهة أخرى.دعت إلى تعزيز شراكات فاعلة تدمج كامل الفاعلين في مسار التنمية ما يضمن تحقيق النمو الأخضر والعدالة الاجتماعية في آن معًا.
أما الجلسة الأولى، التي حملت عنوان "الاقتصاد الدائري ابتكارات، مشاريع رائدة وإطار قانوني" فقد جسدت محطة محورية في تفكيك تجارب رائدة في تونس والمغرب وموريتانيا، إذ قدم خبراء من وزارة البيئة، جامعة منوبة، والوكالة الوطنية للتصرف في النفايات (ANGED) عروضا معمقة تناولت مشاريع مثل "منصة التثمين الذكي للنفايات المنزلية بصفاقس" التي تعتمد حلولا رقمية متطورة لتحويل النفايات إلى موارد ذات قيمة إلى جانب مبادرات لتدوير البلاستيك في ولاية سليانة المبنية على شراكات متينة بين الجمعيات المحلية والقطاع الخاص لتعزيز كفاءة منظومة تدوير النفايات، فضلا عن ذلك تناول النقاش الإطار القانوني الحالي مع التأكيد على ضرورة تعديل قانون البيئة التونسي (القانون عدد 99 لسنة 2018) لتسهيل اعتماد تقنيات حديثة تدعم الاقتصاد الأخضر مواكبا بذلك التزامات تونس الدولية في مكافحة التغيرات المناخية.
ومع انطلاق فترة الورشات توزع المشاركون على ثلاث قاعات رئيسية، ففي "قاعة طاهر شريعة" تناولت ورشة "الإيكو-تصميم والابتكار في الصناعات التقليدية" تجارب جمعت بين حرفيين من جهات مثل جندوبة والقيروان إلى جانب مصممين شباب من موريتانيا والسنغال حيث تم تسليط الضوء على كيفية إعادة إحياء الحرف التقليدية عبر دمج مبادئ الاستدامة والمواد البيئية الصديقة ضمن مشروع "الحرف التقليدية الخضراء في المغرب العربي" وهو ما يعزز الهوية الثقافية ويخلق فرص عمل مستدامة للشباب، وفي "قاعة صوفي القلي" تناقش المشاركون موضوع "الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في مواجهة التغيرات المناخية" حيث استعرضت بلديات من ولايات باجة وقابس بدعم من الشبكة التونسية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني (RTESS)، تجاربها في تبني نموذج تشاركي لإدارة الموارد المائية والزراعية فيما أظهرت جمعية إرادة للتنمية في تطاوين مبادرات عملية تهدف إلى دمج الفئات الهشة والمهمشة في الاقتصاد وتعزيز تكافلهم الاجتماعي.
على الجانب الآخر، شهد "مسرح الجهات" تنظيم ورشة "الصناعات الثقافية والإبداعية" التي شارك فيها فنانون ورواد مشاريع ثقافية من تونس مثل "سينما الجبال" بجندوبة و"قصص نساء الجنوب" التي توثق التراث الشفوي حيث أوضح المشاركون كيف أن الفن لا يعتبر ترفا في زمن الأزمات لكنه آلية فاعلة لإحياء الاقتصاد المحلي وبناء جسور ثقافية تربط بين الماضي والحاضر وتشكيل هوية وطنية جديدة تستند إلى قيم الاستدامة، إضافة إلى ذلك ضمّ المنتدى لقاءات مثمرة مع نوادي 3ZÉRO الجامعية، حيث عرض طلبة من جامعات تونس، المنستير، ومكناس المغربية مشاريع بيئية ومبادرات مجتمعية تعكس رغبة الأجيال الصاعدة في المساهمة الفعلية وإحداث التغيير الإيجابي.
كما شهدت حلقات التفكير (Think Tank) مناقشات عميقة بين رؤساء بلديات شابة من ولايات بنزرت والقصرين وناشطين بيئيين تناولت أدوار البلديات كقاطرة للتنمية المستدامة مع التركيز على ضرورة دمج المجتمع المدني والقطاع الخاص في التخطيط التنفيذي إلى جانب تطوير أدوات الحوكمة المحلية لتكون أكثر شفافية وفعالية، ولم تغفل هذه الحوارات التحديات المالية التي تواجه البلديات حيث بحث المشاركون سبل الاستفادة من التمويلات الوطنية والدولية لتعزيز قدرات البلديات على تنفيذ مشاريع الاقتصاد الدائري ما يعكس وعيا متناميا بأهمية التمويل المستدام كركيزة أساسية لتحقيق النتائج المرجوة.
وعلاوة على ذلك، شهدت جلسة ريادة الأعمال البيئية حضورا لافتا إذ قدم رواد أعمال من "Green Tech Valley" في تونس العاصمة و"Tounes Bio" في صفاقس شهادات ثرية عن رحلاتهم في بناء مشاريع بيئية ناجحة وأكدوا خلالها ضرورة بناء منظومة متكاملة تجمع بين التمويل، التكوين، البحث العلمي، والدعم الحكومي لتوفير بيئة محفزة للاستثمار في الاقتصاد الأخضر وإرساء قواعد تنافسية مستدامة بحيث لا تقتصر هذه المشاريع على الربح الاقتصادي فقط لكن تتعداه لتشمل التأثير الاجتماعي والبيئي معززة بذلك مفهوم التنمية الشاملة.
وفي سياق متصل جذب عنوان "نحو منظومة دائرية لإدارة النفايات في تونس" اهتماما واسعا حيث استعرض خبراء من الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات (ANGED) والشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه (SONEDE) استراتيجيات مبتكرة للفرز من المصدر والتدوير وبالإضافة إلى ذلكأبرزوا أهمية دمج الحلول الرقمية والتكنولوجية لتعزيز الكفاءة وتقليص الأثر البيئي للنفايات مؤكدين أن نجاح هذه المنظومة يتطلب تكاتف الجهود بين مختلف الفاعلين مع تبني ثقافة بيئية راسخة في المجتمع، تلتها جلسة "المسؤولية الاجتماعية للشركات من شعار إلى فعل" التي قدمت دراسات حالة لشركات وطنية رائدة مثل "Tunisie Telecom" و"Délice Danone" والتي تبنت سياسات مستدامة جعلت المسؤولية الاجتماعية جزءا لا يتجزأ من استراتيجياتها حيث لم تعد هذه الممارسات مجرد رفاهية بل أصبحت شرطا أساسيا لاستمرارية الأعمال ونجاحها في الأسواق المحلية والدولية على حد سواء.
في ختام اليوم أضفت سهرة "YOUTH WE CAN!"، التي شهدت عروضا فنية حية بمشاركة مجموعات شبابية من مختلف الولايات روحا نابضة بالحماس والتفاؤل، فقد جسدت هذه السهرة التزام الجيل الجديد بقيادة التغيير وإثباتا عمليا على أن الشباب هم وقود المستقبل الحقيقي حاملين معهم أفكارا متجددة وإرادة صلبة لإحداث تأثير مستدام في المجتمع والبيئة وهو ما يؤكد أن الأمل الحقيقي يكمن في طاقات الشباب ورغبتهم الجامحة في صنع الفارق.
ولم يكن "منتدى Convergences Tunisie 2025" مجرد تجمع عابر لكنه شكل نقطة انطلاق استراتيجية لتأسيس حوار مستمر وشراكات فاعلة بين جميع الفاعلين من القطاعين العام والخاص، المجتمع المدني، والمؤسسات الأكاديمية؛ كما كان منصة بارزة لتجسيد النضج المؤسسي والوعي الجماعي بضرورة العمل التشاركي لمواجهة التحديات البيئية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجه تونس، إذ عبر المشاركون بوضوح عن إصرارهم على تحويل النقاشات والرؤى إلى مشاريع ملموسة قادرة على إعادة رسم خارطة التنمية الوطنية بخطى واثقة ومدعومة بتضافر الجهود وحسن إدارة الموارد لتؤكد بذلك أن مستقبل تونس هو مستقبل أخضر، متضامن، ومبني على حوكمة رشيدة تجمع بين الحكمة، الإرادة، والابتكار.
في المحصلة، مثل هذا المنتدى انعكاسا حيا لتجربة تونس في الانتقال نحو نموذج تنموي جديد يعيد الاعتبار للأدوار المحلية والجهوية ويضع المواطن في قلب العملية التنموية ليس كمجرد متلقي ولكن كفاعل وصانع قرار حقيقي في رحلة وطنية تستمد قوتها من تلاقح الرؤية، الإرادة، والتجربة، نحو غد يستحقه الأجيال القادمة.