الصفحة 4 من 5
الحفر وسيلة للبحث في الأنا بين الذاكرة والرمز
من خلال خصوصيّة الحفر، حاول الضحّاك مقاربة مواضيعه بوسائله وأدواته التي جعلها متفرّدة بداية من البحث الخطّي حتى الحصول على المسحوبة، فمثّل الحفر مطيّة ليبحث من خلاله في الأنا بين الذاكرة والرّمز، عبر الخطوط والألوان وهيكلة الفضاء: فنجد الألوان تخبئ الأشكال الصغرى، وتبني شفافيّة عجيبة تتعمّد أحيانا الإخفاء، فيضع المحفورة في جدليّة بين الثابت والمتحوّل، بين صدى الذاكرة والإشارات الرمزيّة كما استعان بإيقاعيّة الخطوط العنيفة، الصريحة التي ميّزت محفوراته ليعبّر من خلالها عن عنف داخليّ وتشنّج، أراد إظهاره عبر تقنية الحفر حيث حضرت الخطوط أكثر من المساحات، باستعماله لأدوات حادّة تدلّ على نظرة خاصة للأشياء، وتتطلّب الكثير من المجهود والقوّة للتحكّم فيها، وهو رمز لإصراره وجرأته وسعيه الدائم لبلوغ الأفضل، بخصوصيّة وسائل وأدوات الحفر وقد يكون ترجمة للتعبير عن المصاعب الذي مرّ بها خلال مسيرته الفنيّة بحثا عن ذاته وهواجسه، إذ يقول في هذا الإطار: "إنّ الحفر يستدعي تقنيات والتمكّن منها وإتقانها يعتبر فنّا"(1) فكانت جلّ أعماله يسبقها بحث وتخطيط لكنه عمد أحيانا على الاشتغال بتلقائيّة ليجعل عامل الصدفة حاضرا ولتكون حركات اليد السريعة مؤسّسة لفعله التشكيلي. فركز على الحفر، حيث أوجد التلقائيّة والحركيّة وصراحة الخطوط المنحنية وحدّتها، قد يجد خلفها شخصيته الحادّة والصّريحة في بلوغ الهدف بحلول تقنية مغايرة لغايات رمزيّة تشكيليّة، ليجعل من المحفورة علامة وأنموذجا لباحث عن مفردة جماليّة، قد يجد نفسه في أكثر حالاتها بين مفردات تراثيّة باستنطاق الأصالة أو التعبير عن الواقع، بالتحوّل من عالم الأرض (القوافل والحضرة) إلى الجوّ وعالم الطيور: "فإعادة إحياء جمل أو طائر هو شيء رائع..."(2) نعته النقّاد في أكثر من مقال بأنه «حفّار الذاكرة»(3) وبذلك وفّر لنفسه طريقة متفردة ومتميّزة للبحث الاستيطيقي بإعطائه للحفر تجديدا إبداعيا، فاتخذ من البحث عن الأنا هاجسا وقضية: "فالفنّان الجديد لا يعبّر عن الوهم، بل عن الواقع الواقعي وهو انصهار العالم مع الفنّان"(1) لذلك أراد أن يطبع ذاته بالنفاذ داخل المعطى الموجود واقتراح معطى مغاير يتوافق مع ميولاته وهواجسه: "باتخاذ موقف للرّوح أمام كل المناهج التي يستعملها العقل للتوصّل إلى معرفة ملموسة للواقع فالحداثة ليست مجرّد إدخال للتقنية والمخترعات الحديثة"(2)، بل سمات أسلوبيّة تمكّن من اكتسابها بعد دراسة وإطلاع. فلم يختر أسلوبا وصفيّا حياديّا، بل جمع بين التأمل الهادئ والنقد الموضوعي، لذلك احتوت محفوراته على قواسم مشتركة تدلّ على انتمائه بواقعيتها ورمزيتها، تتسّم بنبرته وبتشابك خطي عنيف يحتلّ المشهد ولئن جعل لمحفوراته أسلوبا خاصا متميّزا بالتراوح بين التشخيص والرمز، بين تمثيل الواقع وإعادة تشكيله بمنظوره الخاص، فإن فرديّة أسلوبه تأكدت من خلال إصراره على اختيار الحفر على الخشب، بعيدا عن إلزامية الحدود.