في عالم متسارع الرقمنة، أصبح الفضاء الرقمي انعكاسا عميقا للبنية الاجتماعية التقليدية التي طالما كرست أشكال السيطرة والتمييز الجندري، وبينما توفر التكنولوجيا إمكانيات هائلة للتواصل والتمكين تستخدم أيضا كأداة لتعزيز هيمنة قائمة لتكشف عن وجه جديد للعنف ضد المرأة، هذا العنف لا يقتصر على الأذى الفردي، بل هو ظاهرة تعكس اختلالات هيكلية أعمق داخل المجتمعات، وفي هذا السياق نظمت جبهة المساواة وحقوق النساء و المعهد الدنماركية لحقوق الانسان و كيفينفو و المعهد الدنماركي لمناهضة التعذيب ديغنيتي و هيئة الأمم المتحدة للمرأة بتونس ندوة في الغرض تحت عنوان" متحدات و متحدون ضد العنف النشاط على النساء في الفضاءات الرقمية: رهانات وفرص".
مقالات ذات صلة:
العنف الإلكتروني ضد الرجال مأساة صامتة تحتاج إلى حلول فعالة
دراسة ميدانية تكشف عن زيادة جرائم العنف المسلّط على النساء في تونس
16 يومًا من النشاط: حملة لمناهضة العنف ضد النساء والفتيات في تونس
الفضاء الرقمي الذي يفترض أن يكون مساحةً حرة للتعبير والمشاركة سرعان ما تحول إلى ميدان تنافسي غير متكافئ، تتجلى فيه علاقات القوة بصور غير مرئية لكنها مؤثرة، فالمرأة تجد نفسها أكثر عرضة للهجمات الرقمية بسبب مزيج من البنية الثقافية التمييزية والطبيعة التقنية للفضاء الإلكتروني؛ إخفاء الهوية،السرعة الفائقة في انتشار المعلومات، وغياب الرقابة الفعالة تجعل المرأة هدفا سهلا للتحرش، الابتزاز، والتشهير؛ هذه الانتهاكات الرقمية لا تحدث بمعزل عن الواقع الاجتماعي بل تتغذى على تراث من الصور النمطية التي تضع المرأة في موضع الهامش سواء في الفضاء الحقيقي أو الافتراضي.
الإعلام والسياسة يلعبان دورا مزدوجا في هذه الظاهرة، فمن ناحية تعيد وسائل الإعلام إنتاج الصور النمطية عن المرأة مما يغذي المناخ العام الذي يسمح بتطبيع العنف الرقمي، ومن ناحية أخرى فإن التوجهات السياسية التي تتجاهل قضايا المرأة الرقمية أو تقيد التشريعات تحت ذريعة حماية حرية التعبير تعمق المشكلة، كما أن غياب الالتزام السياسي الواضح بمكافحة العنف الرقمي يضفي شرعية ضمنية على هذه الممارسات ويُعزز التسامح الاجتماعي تجاهها.
وعلى الصعيد القانوني، يكشف العنف السيبرني عن فجوة عميقة في الأطر التشريعية التي غالبا ما تكون متأخرة عن مواكبة التحديات المستجدة في العالم الرقمي، فالعديد من القوانين الحالية تركز على الجرائم التقليدية مما يترك الأفعال الرقمية المسيئة مثل التحرش الإلكتروني، الابتزاز عبر الإنترنت، ونشر المعلومات أو الصور الخاصة دون حماية قانونية كافية.
وفي هذا السياق، تأتي اتفاقية بودابست (2001) وهي أول معاهدة دولية متخصصة في مكافحة الجرائم الإلكترونية، لتُشكل أساسا قانونيا يمكن البناء عليه للتصدي للعنف الرقمي، وتلزم هذه الاتفاقية الدول الأطراف بتطوير تشريعات وطنية شاملة تجرم مختلف أشكال الجرائم الإلكترونية، بما في ذلك تلك التي تستهدف النساء بشكل خاص، ومع ذلك فإن تنفيذ هذه الاتفاقية يواجه تحديات عديدة، أبرزها عدم انضمام العديد من الدول النامية إليها وضعف التعاون الدولي الفعال في تتبع الجرائم العابرة للحدود، وتونس رغم تقدمها في تشريعات مثل القانون عدد 58 لسنة 2017 لمكافحة العنف ضد المرأة، لا تزال بحاجة إلى ملاءمة قوانينها مع متطلبات العصر الرقمي والتوسع في تطبيق الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
كما أن غياب التشريعات الرادعة يقوّض العدالة الرقمية ويعطي مرتكبي العنف الرقمي مساحة أكبر للتفلت من العقاب وحتى في الحالات التي توجد فيها قوانين تجرم العنف الرقمي، فإن ضعف آليات التنفيذ يبقي النصوص القانونية عاجزة عن حماية النساء، وهنا تأتي أهمية بناء قدرات المؤسسات القضائية والأمنية على التعامل مع قضايا الجرائم الرقمية، من خلال توفير التدريب على الأدوات التقنية وتعزيز التعاون مع شركات التكنولوجيا التي تمتلك البيانات والمعلومات اللازمة لتتبع الجناة.
إلى جانب التشريع، لا يمكن إغفال دور التكنولوجيا كجزء من المشكلة والحل في آنٍ واحد، فالتكنولوجيا التي تستخدم كأداة للسيطرة على المرأة عبر التهديد والتشهير، يمكن أيضا تسخيرها للتمكين وحماية الحقوق الرقمية،فالشركات التقنية الكبرى، مثل "ميتا" و"تويتر" و"غوغل"، تتحمل مسؤولية مباشرة في توفير بيئة رقمية آمنة للنساء،اذ يمكنها من خلال استثمارات بسيطة نسبيا تطوير أدوات ذكاء اصطناعي أكثر دقة لرصد المحتوى المسيء وتوفير سياسات حماية أقوى للبيانات الشخصية وضمان تطبيق صارم لإرشادات السلوك على المنصات الرقمية،زلكن هذه الجهود تتطلب ضغطا مستمرا من الحكومات والمجتمع المدني لضمان التزام هذه الشركات بمسؤولياتها الأخلاقية، بدلا من وضع الربح التجاري على رأس أولوياتها.
في الوقت نفسه، يبقى تمكين النساء رقميا جزءا لا يتجزأ من مواجهة العنف الرقمي، فتعزيز الوعي الرقمي خاصة بين النساء في المناطق الريفية يعتبر أحد الأدوات الأكثر فاعلية لمواجهة العنف الرقمي، فالتعليم الرقمي لا يقتصر على استخدام الإنترنت، بل يشمل أيضا تدريب النساء على كيفية حماية بياناتهن الشخصية، التعرف على أساليب الاحتيال الرقمي، وتقديم شكاوى قانونية عند تعرضهن لأي نوع من أنواع الإساءة؛ وفي هذا الإطار، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورا محوريا من خلال تطوير تطبيقات تعليمية تساعد النساء بما في ذلك الأميات وذوات الإعاقة على فهم حقوقهن الرقمية بطرق بسيطة وسهلة الاستخدام.
لكن الحلول الفردية لا تكفي فمواجهة العنف الرقمي تتطلب تحالفات مجتمعية واسعة، فالحكومات، الشركات التقنية، والمؤسسات غير الحكومية بحاجة إلى العمل المشترك لتطوير سياسات شاملة توفر الحماية للنساء وتعزز العدالة الرقمية، كما أن التعاون بين هذه الأطراف يمكن أن يثمر مبادرات تعليمية وبرامج تدريبية تستهدف بناء ثقافة رقمية ترسخ قيم المساواة والاحترام.
اما على المستوى الثقافي، لا بد من إعادة النظر في الخطابات الاجتماعية والإعلامية التي تعزز الصور النمطية عن المرأة،فالإعلام باعتباره القوة الناعمة التي تشكل الوعي العام يمكن أن يكون أداة للتغيير بدلا من أن يكون جزءا من المشكلة، وتبني سرديات جديدة تبرز المرأة كفاعل أساسي في الفضاء الافتراضي يمكن أن يسهم في تغيير النظرة المجتمعية ويحد من تطبيع العنف الرقمي.
ختاما، العنف السيبرني ضد المرأة ليس مجرد مشكلة تقنية أو اجتماعية بل هو انعكاس لبنية سلطة أوسع تعيد إنتاج نفسها في كل فضاء جديد، سواء كان ماديا أم رقميا، وتفكيك هذه البنية يتطلب مقاربة شاملة تتجاوز الحلول التقليدية إلى إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا على أسس ترسخ قيم العدالة والمساواة، والعدالة الرقمية ليست ترفا، بل هي ضرورة لضمان أن يكون العالم الرقمي فضاء للحرية والتمكين، لا ساحة جديدة للقهر والسيطرة، ومن خلال التشريع، التوعية، والتعاون الدولي، يمكننا أن نصنع فضاء رقميا أكثر إنسانية يعزز الحقوق ويحمي الحريات.