بقلم: الناقد الاستاذ رضا الجبالي
ورد العنوانُ مركّبا بالعطف يتكوّنُ من اسمين وحرفٍ يُحيلان على هويّة عربيّة . فادي جاء في المرتبة الأولى فكأنّه قطبُ العنوان ومفتاحهُ ومحورهُ أيضا أمّا سلمى فهي القطبُ الثّاني في العنوان وكأنّها المآلُ والنّتيجةُ . وكأنّنا إزاء تفاضلٍ بين قطبيْ العنوانِ ، فادي وما يُوحي به من معاني الفداءِ والتّضحيةِ وسلمى وما تُوحي به من معاني السّلامِ والأمانِ وكأنّ مآلَ التّضحيةِ إدراكُ السّلامِ . والواو أداةٌ واضحةٌ نحوًا لكونها تُفيدُ العطفَ ، لكنّ وظائفَ هذه الأداةِ في مستوى المعنى متنوّعةٌ وقابلةٌ لقراءاتٍ شتّى . فهي قد تُفيدُ التّشاركَ ، وقد تُفيدُ التّضاد ، وبذلك فإنّ العنوانَ إيجازٌ وتكثيفٌ لأًنًّه يختزلُ قطبيْ النّصّ ، أًمّا النّصُّ فإسهابٌ لأًنًّه يَبْسُطُ ما اختزلَه العنوانُ ، لذلك فهو عتبةٌ هامّةٌ من عتباتِ النًّصِّ ومكوّنٌ أساسيٌّ فيه.
مقالات ذات صلة:
أكتب إليك بحبر الروح.. ودم القصيدة.. ايا غزة الصابرة
شكوى قلب...: قصيدة منية محمود تحمل وزن العشق والألم
تشكّل النّصُّ في قالبِ مشاهدَ فكلّ حركةٍ تجسّمُ مشهدا ، وترِدُ المشاهدُ محكومةً بالتّضاد بعضُها يصوّرُ فادي وبعضُها يصوّرُ سلمى والنّاظرُ في النّصِّ من جهةِ كيفيّاتِ توالُدِ الضّمائرِ يلاحظ بيُسْرٍ أنّ الكلامَ يردُ مُسندا إلى ضميرِ المتكلِّمِ المُفرَدِ حينًا وضميرِ المخاطَبِ المفردِ حينا آخر فتتعدّدُ بذلك الأصواتُ . ويشهَدُ هذان الضّميران أكثرَ من علاقةٍ فيتشابكان في مستهلِّ القصيدةِ ثمّ تصبح العلاقةُ بينهما علاقةَ تناوُبٍ وتداوُلٍ بين طرفيْ الخطابِ بين المتكلّمِ والمتقبِّلِ بين " فادي وسلمى " فيتداخلان وفقَ نسقٍ بموجبه تمّحي المَسَافةُ الفاصلةُ بين الضّميرين فتصبح المَسَافةُ صِفر . إنّ هذه الطّريقةَ في الكتابةِ هي الّتي تمنحُ النّصَّ بُعدًا ملحميًّا ، لكنّ هذا البُعدَ الملحميَّ لا يردُ في النّصّ بمفرده بل يتزامنُ ويتعاضدُ مع بعدٍ آخرهو البعدُ الغنائيُّ النّاتجُ عن التّجانسِ الصّوتي ، والتّماثلِ التّركيبي ، والتّقابلِ الدّلالي بين ثنائيّة الموتِ والحياةِ . فالقصيدةُ مليئةٌ بالموسيقى والغنائيّةِ في لغةٍ إيقاعيّةٍ مُوَقّعةٍ تعضُد فيها الوظيفةُ التّأثيريّةُ الوظيفةَ الإنشائيّةَ في صياغةٍ لغويّةٍ تعتمدُ على إيقاعِ الحروفِ وتشكيلِ المادّةِ اللّغويّةِ عن طريق إعادةِ المفردةِ الواحدةِ ومشتقّاتِها في سياقٍ متماثلٍ يعتمدُ على التّوليدِ اللّفظيِّ وعلى التّقابلِ والتّناقضِ ، كما أنّ التّداولَ بين طرفيْ الخطابِ ( فادي / سلمى ) يساهمُ في جعلِ الكلامِ موزّعًا توزيعًا مقطعيًّا متماثلاً يُعمِّمُ الإيقاعَ ويكرِّسُهُ . بالإضافة إلى ذلك ترد المقاطعُ الغنائيّةُ في شكلِ نوحٍ وندبٍ ويتكثّفُ فيها الإيقاعُ الجنائزيُّ الحزينُ فتحفلُ بصورٍ تجسّدُ فاجعةَ الموتِ والفقدِ وتدورُ حولَ الوَجَعِ والألمِ.
حبيبي ... الأمّ في المشفى
أخي أودت به الحمّى
وأفنى القصفُ أخوالي
ولم يترك بنا عمّا
ومات الجدُّ من كمد
فزادت شقوتي همّا
حينها فقط ينفتحُ النّصُّ على الواقعِ ويكتسبُ قيمتَه فلا معنى للكتابةِ ولا معنى للإبداعِ مطلقا إنْ هو تخطّى الواقعَ وأقصاه. وهاهنا يردُ الحوارُ ويفتحُ النّصَّ من الدّاخل على الواقع ويشدّه إليه شدّا . والنّاظرُ في هذه المقاطعِ الحواريّةِ الدّراميّةِ يجدُ مدارها الحديث عن الحبِّ والحربِ عن الحياةِ والموتِ أيْ عن اليوميِّ العاديِّ المعروفِ ، عن المعاناةِ والألمِ والتّشرّدِ فترسمُ عذاباتِ الذّاتِ وأوجاعَ التّاريخِ.
تكابرُ أنت يا فادي
تمثّلْ واقعي يوما ... !
فما في خيمتي خبز
وجوعي ... كافر أدمى
وما في الخيمة ماء
سوى مطرٍ... إذا يهمى
وملءُ الخيمة برد
يفُتُّ اللّحمَ والعظما
فالقصيدةُ عبارةٌ عن حكايةٍ مدارها الحياة اليوميّة للفلسطينيّ تُعمّق فيها الكتابة ُ بالمشهد البعدَ الدّراميَّ . كما أنّ النّصَّ إضافة إلى حضورِ الوصفِ والحوارِ فإنّه يلجأُ في مواضعَ أخرى إلى السّردِ حيث يصبحُ مدارُ الكتابةِ حكايةَ حالٍ ورسمِ تغريبةِ الفلسطينيِّ فينفتحُ أكثرَ على الواقع ويمتلئُ بصخبِ لحظتهِ التّاريخيّةِ وما يجري في فلسطين من دمار وما يعيشُه الفلسطينيُّ من عذاباتٍ ووجعٍ .
أتيتُ مغافلا موتي
وهذا القصف قد حمّ
أتيتكِ لاعنا حربا فمنها العرس ما تمّ
وما اخترنا ... وهُجِّرنا
أمام العالَم الأعمى
غير أنّ النّصَّ لا يكتفي بتصويرِ الوجعِ الفلسطينيِّ فحسبْ بل يحوِّلُه إلى أسطورةٍ أو ملحمةٍ من خلالها يختزلُ ما ينبني عليه الوجودُ بأسره من صراعٍ أبديٍّ أزليٍّ بين قُوَى الحياةِ وقُوَى الموتِ . وهكذا تنفتحُ حكايةُ الفلسطينيِّ على حكايةِ الإنسانِ مطلقا ، هذا البعدُ المأْسويُّ الإنسانيُّ الّذي يجعلُ من تغريبةِ الفلسطينيِّ محنةَ الإنسانِ مطلقا في الوجودِ ومن هنا يتبيّنُ لنا أنّ لا معنى للإبداعِ أبدا إن لم يتشكّلْ مأخوذا بالإنسانيِّ الكونيِّ أي بعذاباتِ البشرِ وجراحاتِه طيلةَ رحلتِه تحت الشّمسِ . فالمعاناةُ أكبرُ منْ كونها شخصيّة بل هي معاناةُ كلِّ المسحوقين في الأرض وبذلك تصبح الكتابةُ محاولةً للارتقاء بالقصيدة من تشخُّصها الذّاتيِّ إلى إنسانيّتِها الأشملِ والأعمِّ وإلى إكسابِها بعدًا أعمقَ ومجالاً أفسحَ وتأثيرًا أرحبَ ولتتجاوز الآنيَّ المحدّدَ إلى المطلقِ الممتدِّ في الزّمن ففي عصر التّغييبِ القسريِّ ومحاولاتِ القطعِ الجماعيّةِ يُكتَبُ الشّعرُ ليبقى ويخلُدَ. بيدَ أنّ القصيدةَ رغم العذاباتِ والجراحاتِ ورغم الصّورِ المأسويّةِ القاتمةِ الحزينةِ فإنّها تطفحُ بالتّفاؤلِ وتنبُضُ بالحياة وتُقِرُّ بحقيقةٍ تاريخيّةٍ هي أنّ إرادةَ الشّعوبِ لا تُقهر ، ولا مناص من تحقيق المظلومين لخلاصِهم فكلّما تفاقم الظّلمُ أوشكتْ ساعةُ الخلاصِ على الاقترابِ . والخلاصُ لا يكون إلاّ من خلال الموتِ والتّضحيةِ من أجل الحياةِ والحرّيّةِ . هاهنا ترتقي حكايةُ " فادي وسلمى " إلى مصافِّ الأسطورة وتكتسبُ بعدا رمزيّا للتّضحيةِ الممزوجةِ بالحبّ والعشقِ . وللتّأكيد على قيمةِ التّضحيةِ لا يرى فادي في الموتِ نهايةً أوفزعًا بل يرى فيه ولادةً جديدةً واستشرافًا بالخلاصِ الأبديِّ فيُحسِّنُه ويُجمِّلُه ويُحبّبه إلى النّفوس .
إن استشهدتُ ... لا تبكي
دمي قد يجلبُ السّلما
أحِبّي فارسا غيري ... !
أريده فارسا شهما ... !
وهو ما يحيلنا على موقفِ العربيِّ قديما من الموتِ إذ لم يعد قوّةً قاهرةً وعدوًّا متربّصًا ، ذلك أنّ الحلَّ النّموذجيَّ في الوعيِ العربيِّ القديمِ ليس الاستسلامُ للموتِ وإنّما مبادرتُه واقتحامُه للتّغلّبِ عليه . ها هنا تنفتحُ القصيدةُ على التّاريخ فتستدعي من خلالِه حوارا حضاريّا بين الشّرقِ والغربِ حولَ مفهومِ البطولةِ تُصَحِّحُ من خلاله المفاهيمَ فالبطلُ "الهوليوديُّ " الحقيقيُّ ليس إلّا " فادي " رمزُ الفتى العربيِّ الّذي يُبادرُ الموتَ ويقتحمُه وينتصِرُ عليه وما سواه زيفٌ وَوهمٌ وخداعٌ فهو الأصلُ وغيرُه الفرعُ.
وما عادت شوارعنا
تليقُ بمن غدا نجما
وصرتَ حقيقة السّينما
و"هليود "انزوت وهما ... !
وبذلك يتحوّلُ الموتُ من دلالتِه السّلبيّةِ على العدمِ والفناءِ إلى الدّلالة على الحياة والبقاء ، هاهنا يمكننا الحديث عن قدرةِ الشّاعرِ في توظيف الرّمزِ إذ يُعيد إنتاجَه وفقَ نسقٍ بموجبه تنفتحُ كلمةُ " الموت " على دلالاتٍ جديدةٍ وهي الإحالةُ على الحياةِ إضافةً إلى الدّلالاتِ المتعارفةِ المألوفةِ وبذلك يعضُد الرّمزُ شعريّةَ الكلام ويُثريها .