يشهد قطاع الإعلام في تونس اليوم تحديات هيكلية وجوهرية تهدد استمراره، إذ بات يعاني من أزمة مادية خانقة تعصف باستقرار المؤسسات الإعلامية وبمستقبل الصحفيين. ورغم أهمية هذا القطاع الحيوي الذي يمثل صمام أمان للحياة الديمقراطية، فإن التدهور المستمر يعكس مدى هشاشة منظومة الإعلام، خاصة في ظل تراجع التمويل والموارد المادية.
مقالات ذات صلة:
رئيس الجمهورية يقلب المشهد الإعلامي: إقالات وتعيينات جديدة في التلفزة التونسية وسنيب
تحذيرات من أزمة وشيكة: 80% من المؤسسات الإعلامية في تونس قد تندثر
المحكمة العليا في إسرائيل ترفض التماس وسائل الإعلام للسماح لصحفييها بدخول قطاع غزة
الأزمة المالية وآثارها العميقة
يعتمد الإعلام في تونس بشكل كبير على عائدات الإعلانات لتمويل عملياته وتغطية رواتب العاملين، إذ يعتبر الإعلان مصدرًا رئيسيًا للمداخيل في مختلف وسائل الإعلام سواءً المكتوبة أو السمعية والبصرية. ولكن تراجع نشاط الإعلانات أدى إلى شلل كبير في عمليات المؤسسات الإعلامية التي تواجه اليوم صعوبات في تسديد أجور العاملين، وأيضًا في تمويل برامجها اليومية والتشغيلية، وهو ما يهدد مستقبل الصحفيين والتقنيين، الذين يعتمدون على هذا القطاع لكسب لقمة العيش.
إن غياب الإعلانات بهذا الشكل الحاد يقود إلى أزمات متتالية في مختلف مستويات قطاع الإعلام، ويزيد من مخاطر إفلاس المؤسسات الإعلامية التي كانت تعتبر في السابق من الأعمدة الأساسية للاقتصاد الإعلامي الوطني. هذا الانحدار لا ينحصر في وسائل الإعلام المستقلة فحسب، بل يمتد إلى مؤسسات الدولة الإعلامية، التي تكافح هي الأخرى للحفاظ على استمراريتها.
بطالة الصحفيين ومأزق الخريجين الجدد
مع زيادة أعداد خريجي الصحافة والإعلام سنويًا، يتفاقم تحدي البطالة في صفوف الصحفيين، إذ إن السوق الإعلامية المحلية لا تستطيع استيعاب أعداد الخريجين الجدد، وذلك في ظل استمرار بطالة عدد كبير من الصحفيين المحترفين. إن هذه الأزمة خلقت ما يمكن تسميته بـ"البطالة الإجبارية"، حيث يضطر الكثير من الصحفيين إلى مغادرة القطاع بحثًا عن فرص أخرى خارج الإعلام أو العمل بأجور متدنية لا تغطي احتياجاتهم الأساسية.
وبالتالي، يجد الخريجون الجدد أنفسهم أمام مستقبل غامض في سوق تفتقر إلى فرص العمل، ويضطر العديد منهم إما إلى تغيير اختصاصاتهم أو قبول العمل بشروط غير مستقرة ودون ضمانات حقيقية. هذا الوضع خلق حالة من الإحباط لدى العديد من الكوادر الإعلامية، وجعلهم عرضة للاستغلال المهني، ما يؤدي إلى تراجع نوعية العمل الإعلامي ويهدد بنزيف مستمر للكفاءات الصحفية الشابة.
دور الإعلام في النظام الديمقراطي وحاجته للدعم
الإعلام لا يُعد مجرد وسيلة لنقل الأخبار؛ بل هو مؤسسة اجتماعية تمثل صرحًا أساسيًا لحماية الديمقراطية وترسيخ مبدأ المساءلة. ففي ظل الإعلام المستقل، يشعر المواطن بأنه يمتلك صوتًا قادراً على التأثير وصناعة التغيير، كما تُفتح قنوات الرقابة على أداء الحكومة والمجتمع المدني بشكل فعال. وبالتالي، فإن تدهور هذا القطاع قد يؤدي إلى فراغ يضعف الشفافية ويحد من حرية التعبير، ويؤثر سلبًا على الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
لهذا، يتطلب الوضع تدخلًا حكوميًا عاجلاً لإعادة بناء ثقة الإعلام، وذلك عبر تقديم الدعم المالي المباشر أو غير المباشر لمؤسسات الإعلام، ووضع سياسات جديدة تحفّز على الاستثمار في القطاع الإعلامي. وفضلاً عن ذلك، فإن حماية حقوق العاملين في القطاع تقتضي وضع أطر قانونية ضامنة، مثل تحسين نظام العقود الصحفية ورفع مستويات الأجور، مما يساعد على استقرار الصحفيين ماديًا ومعنويًا، ويعزز من كفاءتهم ومهنيتهم.
اقتراحات لإنقاذ الإعلام في تونس
أمام هذا الواقع، تُطرح جملة من الاقتراحات التي يمكن لرئيس الجمهورية النظر فيها كجزء من خطة إنقاذ القطاع الإعلامي:
إعادة تنظيم سوق الإعلانات: من خلال وضع لوائح شفافة تضمن توزيع الإعلانات بصفة عادلة بين وسائل الإعلام المختلفة، بحيث لا تتركز الإعلانات فقط في وسائل إعلام معينة، مما يعزز من تنوع المصادر ويعطي مساحة أكبر للمنافسة العادلة.
تشجيع المشاريع الإعلامية المحلية والمستقلة: عبر منح حوافز مالية وضريبية للمؤسسات الإعلامية المستقلة، مما يساعدها على الاستمرار في تقديم محتوى متنوع يخدم المجتمع.
التدريب المستمر للصحفيين: توفير برامج تدريبية تدعم الصحفيين وتتيح لهم اكتساب مهارات جديدة وتطوير أدائهم، حيث تسهم هذه التدريبات في رفع جودة العمل الإعلامي وتشجيع الصحفيين على تقديم محتوى مهني ومتميز.
حماية الصحفيين وحقوقهم: من خلال سن قوانين لحماية العاملين في الإعلام ضد التسريح غير العادل، وتوفير ضمانات قانونية تضمن استقرارهم الوظيفي وتجنبهم الضغوط المالية التي قد تؤثر على استقلاليتهم المهنية.
تطوير البنية التحتية الرقمية: دعم التحول الرقمي في وسائل الإعلام من خلال توفير البنية التحتية والتكنولوجيا اللازمة لتمكين الإعلاميين من مواكبة التطور الرقمي، مما يسهم في تعزيز حضورهم ويزيد من قدرتهم على الوصول إلى جمهور أوسع.
دعوة إلى التحرك العاجل
يواجه قطاع الإعلام في تونس تهديدًا حقيقيًا يتطلب تدخلًا حازمًا وسريعًا من قبل السلطات الحكومية وعلى رأسها رئيس الجمهورية قيس سعيّد، وذلك لضمان استمرارية قطاع إعلامي قوي ومستقل يعزز قيم الديمقراطية ويخدم الصالح العام. إن استثمار الدولة في الإعلام لا يعد رفاهية، بل ضرورة لبناء مجتمع ديمقراطي متماسك، حيث يلعب الإعلام دورًا جوهريًا في خلق توازن بين السلطات ونقل هموم الشعب بكل حيادية وموضوعية.