في خضم الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس، تتزايد أهمية الجباية كأداة رئيسية لتأمين الموارد المالية الضرورية لتمويل الخدمات العامة وتحقيق تنمية متوازنة، وبينما تكافح الدولة لتوفير موارد كافية، يبرز ملف العدالة الاجتماعية كضرورة ملحة لتقليل التفاوت الطبقي وتحقيق التوزيع العادل للثروات.
مقالات ذات صلة:
وزيرة التربية: الرقمنة شعارات فضفاضة في ظل واقع صعب لتلاميذ المناطق الداخلية
رئيس الجمهورية يشرف على وفد تونسي رفيع المستوى في زيارة إلى الصين.. الرقمنة حل ناجع ومقاومة للفساد
حماية النساء والفتيات من العنف في عصر الرقمنة: التحديات والتحولات
ومع ذلك، لا يزال النظام الجبائي يعاني من عدة مشاكل، مثل التهرب الضريبي والفساد، إلى جانب عقبات البيروقراطية المتجذرة التي تعرقل تطور الأداء الحكومي، وفي هذا السياق، يأتي الحديث عن رقمنة الإدارة كإحدى الوسائل الواعدة للحد من البيروقراطية وتحسين كفاءة الجباية، مما يفتح المجال أمام آفاقٍ جديدة، خاصة فيما يتعلق بالشباب والمعطلين عن العمل.
يعتبر النظام الجبائي في تونس مشوبًا بالعديد من المشاكل الهيكلية التي تحد من فعاليته وتضعف تأثيره الإيجابي على الاقتصاد، ولعل إحدى أهم هذه الإشكاليات هي اعتماده الكبير على الضرائب غير المباشرة، مثل ضريبة القيمة المضافة، التي تلقي بعبء ثقيل على الفئات محدودة الدخل، خاصة في ظل تراجع القدرة الشرائية للمواطنين.
إضافة إلى ذلك، يظل التهرب الضريبي والتلاعب بالمداخيل الضريبية عائقين كبيرين أمام تحصيل العائدات التي تحتاجها الدولة، وتبرز هذه الظاهرة خصوصا في المؤسسات الكبرى وبعض المهن ذات الدخل المرتفع، ما يزيد من التفاوت بين الفئات الاجتماعية ويكرس غياب العدالة الضريبية.
ورغم جهود الإصلاح المستمرة، إلا أن مستوى التحصيل الضريبي يبقى ضعيفا، مما يترك ميزانية الدولة معتمدة على الديون الخارجية، في ظل عدم تحقيق ناتج اقتصادي مستدام، ويزيد هذا من مخاطر التضخم وتآكل مدخرات المواطنين، مما يدفع الشباب إلى الهجرة غير النظامية ويترك المعطلين عن العمل في مواجهة ظروفٍ صعبة.
هذا ويعتبر تحقيق العدالة الاجتماعية أحد المطالب الأساسية التي نادت بها الثورة التونسية، ولكن بعد مرور أكثر من عقد، لا تزال التحديات الاجتماعية قائمة، بل قد تفاقمت في ظل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، فالشباب التونسي، الذي يشكل العمود الفقري للمجتمع، يعاني من معدلات بطالة مرتفعة تتجاوز 30% في بعض المناطق، خاصة بين خريجي الجامعات، وهذه النسبة الصادمة تجعل من الصعب على الشباب الاندماج في النسيج الاقتصادي والاجتماعي، ما يزيد من هشاشتهم ويضعف إيمانهم بقدرة الدولة على توفير فرص متساوية.
وفي ظل هذه الظروف، يصبح الحديث عن العدالة الاجتماعية مجرد شعار خال من المضمون، طالما لم تتحقق سياسات فعالة تستهدف دمج المعطلين عن العمل، وخلق وظائف للشباب، وتخفيف العبء الضريبي على الفئات الضعيفة، مع ضمان أن يتحمل أصحاب الدخول العالية والمؤسسات الكبرى نصيبهم العادل من الضرائب.
كذا أن تمثل البيروقراطية المتجذرة في المؤسسات الحكومية عائقا كبيرا أمام تقديم خدمات سريعة وفعالة للمواطنين، كما أنها تساهم في تفاقم ظاهرة الفساد، وتخلق بيئة غير جاذبة للاستثمار، وتأتي رقمنة الإدارة كحل حديث وضروري لتجاوز هذه العوائق؛ فبإمكانها تبسيط الإجراءات الإدارية، وتقليل الحاجة إلى التعاملات الورقية، وبالتالي تقليص مساحة الفساد.
وفي مجال الجباية، يمكن للرقمنة أن تساهم في تحسين جمع الضرائب من خلال نظامٍ أكثر شفافية ودقة، فعندما يكون لدى الإدارة بيانات دقيقة ومحدثة عن الأفراد والمؤسسات، يصبح من الأسهل تحصيل الضرائب بشكل عادل، والحد من التهرب الضريبي.
علاوة على ذلك، يمكن للرقمنة أن تقلل من حجم التكاليف المرتبطة بتحصيل الضرائب وتعزز من رضا المواطنين تجاه النظام الجبائي، بما أن التعاملات الرقمية تقلل من الحاجة للانتظار في الطوابير الطويلة والتعرض للتعقيدات الإدارية.
ومن شأن عملية رقمنة الإدارة التونسية كذلك أن تفتح آفاقا جديدة للشباب في عدة مجالات؛ أولا، يمكن أن تخلق فرص عمل في قطاع التكنولوجيا والمعلوماتية، حيث ستحتاج الدولة إلى كفاءات مختصة لتطوير وصيانة النظام الرقمي في مختلف المؤسسات، كما أن التحول الرقمي يتيح للشباب التونسي فرصة الوصول السهل إلى الخدمات الحكومية، سواء كانوا يرغبون في إنشاء مشاريع صغيرة أو البحث عن وظائف، مما يسهم في تمكينهم من المشاركة الاقتصادية.
علاوة على ذلك، تساهم الرقمنة في تسهيل الإجراءات المتعلقة ببعث المشاريع من خلال تقليل تعقيدات التراخيص وتوفير بياناتٍ شفافة عن فرص الاستثمار والمساعدات المتاحة للشباب، وهو ما يُشجع على انخراط أكبر في سوق العمل وتقليص نسب البطالة.
ورغم الأمل الكبير الذي تحييه الرقمنة في صفوف الشباب والشركات، إلا أن تونس تواجه عدة تحديات في هذا المجال، ولعل من أبرزها نقص التمويل المطلوب لتطوير البنية التحتية الرقمية، وعدم توفر شبكة إنترنت قوية ومستقرة في العديد من المناطق، خاصة الريفية منها؛ إضافة إلى ذلك، تحتاج الإدارة التونسية إلى تطوير الكفاءات البشرية وتوفير التدريب المناسب للموظفين ليكونوا قادرين على التعامل مع النظام الرقمي بكفاءة.
كما وان التحدي الآخر يتمثل في مقاومة التغيير التي تظهر من داخل المؤسسات الحكومية نفسها، حيث يفضل البعض استمرار النظام الورقي التقليدي لضمان استمرارية بيئة العمل المعهودة، اذ إن تجاوز هذه العراقيل يتطلب إرادة سياسية قوية وإصلاحات شاملة تضع الرقمنة في صميم الاستراتيجيات الحكومية.
ألا أن تحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز فعالية الجباية في تونس يتطلب استراتيجية شاملة تتجاوز الحلول الجزئية، ولابد من أن تشمل هذه الاستراتيجية إصلاحا شاملا للنظام الجبائي، بحيث يتحمل كل فرد ومؤسسة نصيبهم العادل من الضرائب دون أن تُثقل كاهل الفئات الضعيفة، كما أن تعزيز الرقمنة يعد ضرورة لا غنى عنها لضمان شفافية النظام الإداري وجعله أكثر كفاءة في خدمة المواطن والاستثمار.
ومن الضروري كذلك تعزيز البرامج الاجتماعية التي تركز على الشباب والمعطلين عن العمل، ودعم ريادة الأعمال من خلال توفير حوافز مالية وإعفاءات ضريبية لتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وخاصة تلك التي تعتمد على التكنولوجيا الحديثة، فالاستثمار في الشباب هو استثمار في مستقبل البلاد، ولا يمكن تحقيق استدامة اقتصادية واجتماعية دون أن يكون للشباب دور فاعل وحقيقي في مسار التنمية.
ولكن برغم كل ماطرحته تبقى تونس أمام تحد حقيقي، حيث يتطلب الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي إرادة سياسية قوية وإشراكا حقيقيا لجميع الأطراف المعنية، من حكومة ومجتمع مدني وقطاع خاص، فلا يمكن للجباية أن تؤدي دورها كاملا دون أن تكون عادلة وشاملة، ولا يمكن للإدارة أن تتطور دون رقمنة تضمن الكفاءة والشفافية، لذا لابد من أن يتحد الجميع خلف رؤية مستقبلية تؤمن بحقوق الشباب وتدعم الفئات المهمشة، حتى تتمكن تونس من تخطي أزماتها، والانتقال إلى مرحلة جديدة تحقق فيها الإنصاف والرخاء لجميع مواطنيها.
ايمان مزريقي