في زمن تتسارع فيه عجلة الحداثة، حيث تسيطر المنتجات المعلبة والآلات الصماء على أسواق العالم، تبرز الصناعات التقليدية كمرآة صافية تعكس أصالة الإنسان وعبق الماضي، تعد هذه الأيام الترويجية التي جمعت بين ولايتي قبلي وجندوبة من 18 إلى 23 نوفمبر 2024، ليست مجرد فعالية تسويقية، بل هي شهادة حية على صراع الأصيل مع الطارئ، على تجلي الروح في مواجهة الآلة.
مقالات ذات صلة:
استثمار عصير البرتقال مقابل الذهب: مقارنة بين السلع التقليدية وغير التقليدية
وزيرة الأسرة تختتم دورة تكوينية لدعم الحرفيات وصاحبات المشاريع الصغرى في الصناعات التقليدية
نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي تكشف عن استمرار الغالبية للأحزاب التقليدية وتقدم لليمين المتطرف
هذا وتخبرنا الصناعات التقليدية بما لا يمكن أن تقوله الكلمات، فكل خيط في نسيج، وكل انحناءة في قطعة فخار، يحملان عبء قرون من الحكايات والرموز التي تسكن ذاكرة الشعوب، فهذه المنتجات ليست مجرد أدوات تستخدم أو تزين بها البيوت، بل هي أشبه بوثائق غير مكتوبة، تحمل في طياتها الحكاية الكبرى للأيدي العاملة التي مزجت الإبداع بالكدّ، وأعطت الشكل لمعاني الصبر والحلم.
إن النظر إلى سجادة يدوية الصنع، مثلا، ليس تأملا في قطعة من القماش، بل غوص في عالم مليء بالتفاصيل، هناك ترى حقا مزيجا رائعا بين الطبيعة والإنسان، حيث تتلاقى الألوان لتعيد تشكيل السماء والحقول، وكأن الحرفي يدون قصة من دون أن يكتب حرفاً واحداً.
ولعل اختيار قبلي وجندوبة لإحياء هذه التظاهرة هو تعبير عن ثنائية فريدة في الهوية الثقافية التونسية، فقبلي برمالها الذهبية وواحاتها التي تلامس السماء، تختزل في صناعاتها أسرار الصحراء، بينما تقدم جندوبة، بخضرتها الفاتنة وجبالها الشامخة، لغة الأرض الخصبة، كما أن الصناعات التي تنتجها هاتان الولايتان ليست مجرد منتجات، بل لغة بصرية تكشف عن روح المكان وسحر الإنسان.
بالإضافة إلى أن هذه الأيام الترويجية للصناعات التقليدية ليست مجرد حدث عابر، بل هي معركة صامتة بين الماضي والحاضر، بين الأيدي التي تنسج ببراعة والأصابع التي تضغط على الأزرار، فهي ليست ماضيا انتهى، بل هي تعبير عن روح تعاند الفناء وتتشبث بالحياة.
وفي عصر تختصر فيه القيمة بالسرعة والتكرار، تقف هذه الحرف اليدوية كدعوة للتأني، للعودة إلى الإبداع الذي يزهر من كدّ الأيدي، فهي شهادة على أن الجمال الحقيقي لا ينسخ، بل يولد من العمق، من فهم الحرفي للعالم من حوله، وتحويله لشيء يُبهج العين ويلمس الروح.
ولكن برغم جمال المشهد لا يمكن لهذه الفعاليات أن تحدث تغييرا جوهريا ما لم تقابل بوعي جماعي، فالصناعات التقليدية لا تحتاج إلى احتفاء موسمي فقط، بل إلى سياسات حقيقية تعيد لها مكانتها في السوق، ولابد من أن تصبح هذه المنتجات جزءا من الحياة اليومية للناس، لا مجرد تذكارات تشترى وتنسى.
والدولة مطالبة بدعم الحرفيين ليس فقط من خلال الترويج، بل عبر تدريب الأجيال الجديدة، وربط الصناعات التقليدية بالسياحة بشكل مستدام، أما المجتمع، فعليه أن يعي أن اقتناء هذه المنتجات هو استثمار في هويته، وحفاظ على ذاكرته الجماعية.
و لايسعني أن اختم ألا بالتأكيد على أن هذه الأيام الترويجية للصناعات التقليدية في ولكامل ربوع الجمهورية التونسية ليست مجرد منصات لعرض المنتجات، بل هي مشهد يعيد تشكيل علاقتنا بالماضي والحاضر،وهي فرصة للوقوف أمام ما يجعلنا بشرا قادرين على الإبداع، حتى في أحلك الظروف، ففي كل قطعة تعرض هناك دعوة مفتوحة لتأمل عمق الإنسان، وقدرته الفريدة على تحويل الحياة اليومية إلى فن خالد، هكذا تتحدث الصناعات التقليدية، ليس بألسنتها، بل بأيديها التي تعيد تعريف الجمال في زمن يميل إلى السطحية.