اختر لغتك

مخطط التنمية بين القاعدة والمركز هو اختبار جدية التحول

مخطط التنمية بين القاعدة والمركز هو اختبار جدية التحول

مخطط التنمية بين القاعدة والمركز هو اختبار جدية التحول

بإمعان الفكر في مشروع مخطط التنمية 2026-2030، تتبدى أمامنا صورة مركبة ومتشعبة لمسار وطني يراد له أن يتجاوز التخطيط التقليدي صوب تصور جديد للدولة وعلاقتها بالمجتمع والمجال، إنه في جوهره ليس مجرد وثيقة تقنية أو رزنامة استثمارية ظرفية ولكنه رهان وجودي على إعادة تأسيس الدولة التونسية انطلاقا من قاعدتها القاعدية وذلك ضمن محاولة لكتابة سردية تنموية تنطلق من مشروعية قاعدية صاعدة لا من مركز يملي ويوجه كما جرت العادة طيلة عقود.

وإذا ما دققنا في النسق المنهجي الذي جاء به المنشور الحكومي عدد 10 الصادر في 22 أفريل 2025، فإننا نلاحظ أنه لا يكتفي بتحديد آجال ومراحل لكنه يتضمن في طياته رؤية تأصيلية تراد لها أن تكون قطيعة مع المنوال التنموي القديم القائم على الفوقية، الأحادية، والتوزيع الاعتباطي للثروات وبهذا المعنى، فإن المخطط ليس فقط أداة اقتصادية انما هو مشروع حكم أو بالأحرى إعادة تخيل لشرعية القرار وهو ما يدخلنا في صلب النقاشات الكبرى حول مفهوم الدولة وتوزيع السلط وموقع المواطن داخل منظومة اتخاذ القرار.

ولأن هذا المخطط ينطلق من القاعدة نحو القمة، فإنه لا يمكن أن يقرأ إلا في ضوء تصور منهجي للرئيس قيس سعيد الذي يضع الديمقراطية القاعدية في قلب المشروع السياسي الجديد مع ما يعنيه ذلك من تحديات متعددة الأبعاد قانونية، مؤسساتية، اجتماعية، ونفسية أيضا؛ فالمجالس المحلية والجهوية والإقليمية التي أنيط بعهدتها إعداد مشاريع المخططات لا تمثل هياكل تنفيذية فقط بل هي فضاءات اختبار لمدى نجاعة النظام القاعدي في خلق التماهي بين القرار والمصلحة العامة، بين المحلي والوطني، وبين الواقعي والممكن.

غير أن هذه الآمال وإن كانت مشروعة من حيث المبدأ تصطدم بتعقيدات الواقع، إذ إن العديد من أعضاء هذه المجالس عبروا صراحة عن امتعاضهم من غياب المرافقة الجادة من قبل هياكل الدولة لاسيما وزارة الاقتصاد والتخطيط، مندوبو التنمية الجهوية، الدواوين، ومعهد الإحصاء ويبدو هذا التململ مبررا ليس فقط بسبب ضيق الوقت وضبابية الأفق بل أيضا لأن هذه المجالس التي ولدت في مناخ سياسي متوتر ومشحون بالتشكيك لم تتلق التأهيل المؤسسي والمعرفي الكافي للاضطلاع بمهمة جسيمة كهذه وهي مهمة تتطلب في الحد الأدنى امتلاك أدوات التخطيط الترابي، الإحصاء التطبيقي، ومهارات القيادة التشاركية.

وعلاوة على ذلك، فإن الرهان التنموي الذي يبنى على مقترحات صاعدة من المجالس يفترض توفر معطيات دقيقة ومحينة حول الحاجيات القطاعية، التوزيع السكاني، خصوصيات المجال، الإمكانيات البيئية، والمؤشرات الاجتماعية الدقيقة وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل غياب قواعد بيانات متكاملة وقابلة للاستغلال الفوري، وهنا يبرز الخطر الحقيقي كيف يمكن صياغة مخطط تنموي وطني من مقترحات محلية قد لا تستند إلى قاعدة علمية أو منهجية واضحة لا لخلل في الإرادة بل لقصور في الإمكانات؟

وإزاء هذا الإشكال البنيوي يطرح سؤال أكثر عمقا هل الدولة مستعدة فعلا للتنازل عن مركزية القرار وتفويضه إلى ممثلي الشعب في الجهات والأقاليم؟ أم أن هذا الانفتاح الظاهري هو فقط غلاف رمزي لمسار ظل في جوهره مركزيا في التصور والتنفيذ؟ فالتاريخ التونسي حافل بمحاولات لا مركزية لم تكتمل وغالبا ما أفرغت من محتواها عبر احتواء إداري أو تقني.

وهنا يستحسن التأكيد على أن النجاح في صياغة مخطط تنمية يعبر عن تطلعات الشعب يتطلب ما هو أكثر من آليات، فهو يتطلب إرادة سياسية حقيقية للقطع مع ذهنية الوصاية المركزية كما يتطلب من الإدارات والمؤسسات المعنية أن تنقلب على نفسها لتتحول من هياكل مراقبة إلى هياكل مرافقة ومن أجهزة توجيه إلى أدوات تمكين وهذا لا يحدث بقرار إداري لكن بثورة ثقافية داخل الإدارة التونسية ذاتها، ثورة تعيد تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها.

ولعل ما يعقد المعادلة أكثر هو ذلك التداخل الغامض بين البعد السياسي والبعد القانوني في ضبط هذا المسار، فبينما ينص الدستور على وجود مجلس وطني للجهات والأقاليم باعتباره غرفة ثانية توازن وتكمل عمل مجلس نواب الشعب، فإن الصلاحيات الممنوحة لهذا المجلس لا تزال قيد التأسيس القانوني والمؤسساتي، ومع ذلك فإن المرجعية القانونية التي يبنى عليها المخطط تعطي لهذا المجلس سلطة استشارية كبرى في صياغة مشروع القانون المتعلق بالمخطط ما يطرح أسئلة جدية حول مستقبل الثنائية البرلمانية في تونس هل هي توزيع عقلاني للأدوار؟ أم تعبير عن مأزق تمثيلي لم يحسم بعد؟

ومن هذا المنظور، فإن مخطط التنمية 2026-2030 لا يمثل مجرد محطة من محطات التخطيط الاقتصادي لكنه لحظة سياسية وتاريخية حاسمة يعاد من خلالها اختبار النموذج الديمقراطي التونسي لا من خلال صناديق الاقتراع إنما من خلال عمق السياسات العمومية ومدى تجذرها في الواقع المحلي وهو ما يجعل من هذا المخطط ليس فقط امتحانا للمجالس القاعدية بل أيضا مرآة تعكس مدى نضج الدولة نفسها وقدرتها على الاعتراف بأن السيادة لا تمارس فقط من العاصمة ولكن من عمق الأحياء والقرى حيث تصاغ الحياة اليومية للمواطن.

ومن هنا، فإن الرهان لا يتعلق فقط بإعداد وثيقة تنموية تستجيب للحاجيات الظرفية ولكنه يتعلق بإرساء تقاليد جديدة في الحكم المحلي تجعل من المواطن عنصرا فاعلا لا مجرد متلق، فالتنمية لا تستورد من الأعلى بل تصنع من رحم المعاناة اليومية ومن فهم دقيق للخصوصيات الترابية والاجتماعية والثقافية وما لم تبن سياسات الدولة على هذا الأساس فإن كل المخططات مهما بلغت جودتها التقنية ستظل معلقة في فضاء رمزي بعيد عن الأرض وعاجزة عن إحداث الأثر المطلوب.

وباختصار لا ينقصه العمق، فإن مسألة "إنجاح برنامج الرئيس قيس سعيد" ليست مسألة ولاء سياسي أو دعم انتخابي إنما هي مسألة قدرة على تحويل الرؤية التأصيلية إلى أدوات تنفيذية وتحويل المنظومة الفكرية إلى منجزات ملموسة، فإذا كان "النظام القاعدي" يريد أن يثبت نفسه كبديل واقعي فعليه أن يقنع الفاعلين المحليين قبل غيرهم بأنهم ليسوا فقط أدوات تنفيذ لكنهم شركاء في إعادة كتابة التاريخ السياسي لتونس وحينها فقط يمكن الحديث عن نجاح حقيقي لا يقاس بعدد المشاريع بل بمدى تحقق السيادة الشعبية والعدالة الإجتماعية الحقة في أدق تفاصيل الحياة اليومية.

آخر الأخبار

عملية بيضاء ناجحة في ميناء صفاقس: تدريب على مقاومة الحرائق والتلوث البحري في ساعة واحدة!

عملية بيضاء ناجحة في ميناء صفاقس: تدريب على مقاومة الحرائق والتلوث البحري في ساعة واحدة!

المنتخب الوطني في قلب الإنسانية: تضامن مُلهم مع أطفال قرى "SOS"

المنتخب الوطني في قلب الإنسانية: تضامن مُلهم مع أطفال قرى "SOS"

واشنطن تهدد طهران: "عواقب وخيمة" إن لم تُذعن لمقترح ويتكوف!

واشنطن تهدد طهران: "عواقب وخيمة" إن لم تُذعن لمقترح ويتكوف!

محكمة الاستئناف بتونس تؤيّد الحكم بسجن نور الدين البحيري 10 سنوات

محكمة الاستئناف بتونس تؤيّد الحكم بسجن نور الدين البحيري 10 سنوات

السجن 37 عامًا غيابيًا لشاب حرّض على قتل نائب بالبرلمان التونسي

السجن 37 عامًا غيابيًا لشاب حرّض على قتل نائب بالبرلمان التونسي

Please publish modules in offcanvas position.