في زمن يتسارع فيه إنتاج النسيان أكثر من إنتاج الحقيقة ويعاد فيه تشكيل السرديات الوطنية بمنأى عن تجارب النساء التأمت يوم 8 أوت 2025 بتونس ندوة تحت عنوان "ذاكرة الحركات النسوية: الممارسات الجيدة في حفظ الذاكرة والأرشيف النسوي"، نظمتها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات بشراكة مع منظمة أوكسفام ومبادرة ROSE، بمشاركة ممثلات عن منظمات نسوية من تونس، الجزائر، فلسطين، مصر، وسويسرا.
هذا اللقاء الذي تجاوز إطاره النظري إلى تشكيل أرضية سياسية للكتابة المضادة لم يكن مجرد لحظة أكاديمية أو تبادل خبرات لكنه كان فعلا تأسيسيا لمساءلة المنظومات القانونية والسياسية التي تتحكم في من يذكر ومن ينسى ومن يؤرشف ومن يقصى وهو ما يعيد طرح العلاقة بين الذاكرة والسلطة، بين الأرشفة والنضال، بين الاعتراف القانوني والمحو الرمزي.
فالندوة لم تقارب الأرشفة النسوية كإجراء توثيقي تقني لكنه كحق سياسي له امتداده في العدالة الانتقالية وفي الكفاح ضد الاستعمار الرمزي الذي طالما حول النساء من فاعلات تاريخيات إلى شواهد صامتة أو إلى غائبات تامّات عن السرد الرسمي، ومن هذا المنطلق تكونت الجلسات لتطرح عمقا جديدا للسؤال هل تستطيع النساء أن يمتلكن ماضيهن دون وساطة السلطة؟ وهل من الممكن قانونيا وإجرائيا تحصين الذاكرة النسوية خارج إملاءات الدولة؟
على هذا الأساس انطلقت الجلسة الأولى بمداخلات من الجزائر وتونس قدمت فيها الناشطات شهادات حية حول أرشفة الحركات النسوية المستقلة مؤكدات أن النضال من أجل العدالة لا يكتمل دون نضال مواز من أجل حفظ أثره، فذاكرة النساء ليست فقط واجبا أخلاقيات لكنها ضرورة قانونية تبنى عليها سرديات المقاومة وأدلة الانتهاكات وأساسات السياسات الإنصافية في المستقبل.
وبشكل مترابط تطرقت الجلسة الثانية إلى ثنائية "الرسمي/اللامؤسسي" في حفظ الذاكرة مسلطة الضوء على خطورة سيطرة المؤسسات الرسمية على روايات النضال النسوي بما يؤدي إلى تمييع الحقيقة، تقطيعها أو إعادة تركيبها بما يخدم الأجندات السلطوية، وهنا برزت إشكالية "الحق في الحفظ" لا كحق في الوصول فحسب بل كحق في إنتاج الذاكرة وتوجيهها خارج مسارات الدولة المركزية خصوصا في السياقات التي تكون فيها الدولة ذاتها طرفا في ممارسة العنف أو في تبييضه تاريخيا.
ومن زاوية أخرى ناقشت الجلسة الثالثة أدوات الحفظ والنشر والتصنيف حيث فتحت تساؤلات دقيقة حول البنى التقنية والقانونية التي تسمح بحفظ الأرشيفات النسوية خارج منطق المصادرة أو الانتهاك وقدمت المتدخلات تجارب من مصر وسويسرا والعالم العربي كشفت فيها التحديات التقنية والأخلاقية المرتبطة بجمع الشهادات، حماية الخصوصية، وضمان الأمن الرقمي في ظل أنظمة لا تضع أصلا مسألة الذاكرة ضمن أولوياتها الحقوقية.
ولم تكن الجلسة الختامية أقل عمقا لكنها شكلت نقطة انعطاف من التحليل إلى التأسيس، من الوصف إلى البناء، حيث عرضت توصيات جماعية نحو إنشاء شبكة إقليمية للذاكرة النسوية تتجاوز الحدود القطرية وتؤسس لأرشيف تشاركي متعدد الأصوات يستند إلى مرجعية حقوقية واضحة، وقد تم التأكيد على ضرورة تضمين هذا التوجه ضمن مقاربة شاملة للعدالة الجندرية تدمج فيها أدوات الأرشفة، الشهادات، المنصات الرقمية، والمصادر المفتوحة كآليات مرافقة لمسار التحول الديمقراطي في بلدان المنطقة.
هذا وقد كشفت الندوة لا فقط تعطش النساء إلى الحفظ ولكن إدراك عميق بأن الذاكرة ليست بديلا عن العدالة بل مقدمة لها، فكل شهادة تسجل، كل حدث يؤرشف، وكل وثيقة تحفظ، هي لبنة في مقاومة المحو وإعادة توزيع السلطة الرمزية بين الجنسين واستعادة سيادة النساء على سردية وجودهن.
ومن هنا، تصبح الأرشفة النسوية أداة قانونية لمساءلة الدولة وفضاء للتحقيق التاريخي وموقعا للمقاومة ضد الإقصاء المؤسساتي، كما تتحول الذاكرة إلى مجال سياسي مستقل تتقاطع فيه الأصوات النسوية لتبني سردية بديلة عن السردية الرسمية لا تنحصر في المعاناة بل تنحت من القوة والاستمرارية والتوثيق العادل.
ولعل التوصيات التي خرج بها هذا اللقاء والتي دعت إلى تشريع وطني لحماية الأرشيف النسوي ودعم منصات الأرشفة الرقمية وتوثيق النضالات النسوية ضمن مسارات العدالة الانتقالية لا تمثل نهاية المطاف بل هي بداية لإعلان مرحلة جديدة هي مرحلة تنتزع فيها الذاكرة كحق وتكتب فيها النساء بأنفسهن لا عنهن.