في سياق وطني محفوف بالتحديات الاجتماعية والاقتصادية وفي ظل الحاجة الملحة لإعادة صياغة العلاقة بين المواطن ومؤسسات الدولة على أسس الشراكة الفعلية والتمكين الذاتي انعقد اليوم الجهوي للتعريف بنظام المبادر الذاتي" بولاية جندوبة تحت إشراف السيد والي الجهة السيد الطيب الدريدي وبحضور السادة المعتمدين وممثلين عن الهيئات الجهوية ومكونات المجتمع المدني وثلة من الشباب الحالم بتغيير واقعه بوسائل قانونية واقتصادية مشروعة وقد قدمت السيدة إيمان الرحوي مستشارة التشغيل والمرجع لنظام المبادر الذاتي بفضاء المبادرة جندوبة رفقة ممثل عن مكتب الضرائب والاداءات وممثل عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وممثلة عن السجل الوطني للمؤسسات هذا اليوم التعريفي، ولكن ما للم يكن هذا اللقاء في جوهره مجرد تظاهرة إدارية تضاف إلى قائمة البرامج الظرفية لكنه جاء ليؤسس لفعل مؤسساتي يحمل في طياته رهانات متعددة تتقاطع فيها مضامين القانون مع إكراهات التنمية ونداءات الجهة، وإذا أردنا أن نقرأ هذا الحدث من منظور يحترم روح العدالة ويزن المفاهيم بميزان النصوص والأثر، فإننا نكتشف أنه يرقى إلى مصاف لحظة تأسيسية تعيد كتابة العلاقة بين الدولة والمواطن لاسيما في المناطق الداخلية التي ظلت العقود خارج زمن السياسات الوطنية العادلة.
وإذ نتأمل في سياق جندوبة الجغرافي والاجتماعي فإننا نكتشف حجم المفارقة بين ما تملكه الولاية من إمكانيات طبيعية واستراتيجية وبين واقعها التنموي المتعثر، فهذه الجهة التي تمتد حدودها نحو الجزائر وتزخر بثروات غابية وجبلية وزراعية ما تزال تعاني من ارتفاع معدلات البطالة وركود الفعل الاقتصادي وتآكل البنية التحتية وتراجع الاستثمار العمومي مما جعل بعض معتمدياتها كأنها مناطق خارج خارطة العدالة التنموية، وبهذا المعنى فإن إدماج جندوبة في منظومة نظام المبادر الذاتي لا يُعد خيارا تقنيا لكنه ضرورة سياسية وأخلاقية تندرج ضمن مشروع إنقاذ اقتصادي عادل ومن هذا المنطلق تصبح المبادرة الذاتية إحدى الأدوات الممكنة لتحريك الساكن ورد الاعتبار للقدرة الفردية في البناء ضمن رؤية وطنية شاملة.
وتعد جندوبة من الولايات ذات البنية الجغرافية المركبة حيث تتقاطع سلاسل الجبال بالغابات الكثيفة والوديان السحيقة مما يجعلها من أغزر المناطق مطرا في البلاد وخاصة مناطق طبرقة وعين دراهم وتمتد على ساحل بطول 25 كم يضم شواطئ مرجانية وسياحة غوص عالمية، كما تحتوي على مطار طبرقة/عين دراهم الدولي الذي بدأ في استرجاع نشاطه بنسبة نمو 16٪ عام 2023 وتضم معابر حدودية كبرى أبرزها معبر ملولة، ببوش، والجليل والتي تشكل شرايين اقتصادية وسياحية حيوية.
ومن الناحية الفلاحية تعد جندوبة من ركائز الأمن الغذائي الوطني إذ أنها تساهم بـ12% من إنتاج الحبوب و94% من إنتاج الفلين و13% من الحليب فضلا عن إنتاج البطاطا والتبغ واللحوم، وعلى المستوى الصناعي تضم أربع مناطق صناعية تتخصص في الصناعات الغذائية بينما تستقطب استثمارات سياحية فاقت 400 مليون دينار، كما تشكل جامعة جندوبة والمعاهد العليا مراكز إشعاع تعليمي يمكن ربطها بسوق المبادرة والتشغيل الذاتي.
وتأسيسا على ذلك، يعد نظام المبادر الذاتي بمقتضى المرسوم عدد 33 لسنة 2020 وما تبعه من تعديلات في قوانين المالية تحولا عميقا في موقع الدولة من المنظومة الاقتصادية، ذلك أن الدولة لم تعد فقط جهة تشغيل لكنها باتت فاعلا ممكنا يحرر أدوات السوق ويعيد توزيع السلطة الاقتصادية من المركز إلى الأطراف، هذا التحول لا يقوم على الشعارات لكنه على أربع مرتكزات أساسية جرية المبادرة كحق دستوري غير قابل للمساومة، العدالة الاجتماعية كضامن لتكافؤ الفرص، الكرامة التي تسترجع حين يصبح المواطن فاعلا لا مفعولا به والمواطنة كتجسيد يومي للمشاركة الفعلية في الحياة العامة عبر المشروع الصغير الفردي.
وليس هذا النظام موجها للفئات الميسورة أو الشركات الكبرى لكنه مخصص لكل تونسي وتونسية لم يسبق لهما امتلاك معرف جبائي ويرغبان في ممارسة نشاط اقتصادي فردي ضمن قائمة محددة تشمل قطاعات الصناعة، الحرف، التجارة، الخدمات غير التجارية، والصناعات التقليدية، على أن لا يتجاوز رقم معاملاتهم السنوي 75 ألف دينار، وهنا تتجلى قوة النظام في كونه يفتح أبواب السوق الرسمية أمام الفئات التي كانت ولعقود رهينة الاقتصاد الموازي أو خارج أي منظومة قانونية، كما توفر المنصة الرقمية www.autoentrepreneur.tn إطارا رقميا يتيح التسجيل والحصول على بطاقة المبادر الذاتي خلال أجل لا يتجاوز 15 يوما وهو ما يقطع مع المسالك الإدارية التقليدية المعقدة ويجسد التحول نحو دولة الخدمات الذكية.
ولعل بطاقة المبادر الذاتي، بصفتها وثيقة إلكترونية رسمية تمثل أكثر من مجرد اعتراف إداري فهي تحول قانوني يمنح المبادر حقا فعليا في ممارسة النشاط الاقتصادي وفتح حساب بنكي والتزود بالمواد الأولية والاستفادة من التكوين والمرافقة والحصول على تمويلات ميسرة مع إمكانية ممارسة النشاط من محل الإقامة وكل ذلك ضمن منظومة قانونية واضحة وشفافة، إلا أن هذه الامتيازات تقابلها جملة من الالتزامات المعلنة أبرزها التصريح المنتظم بالأرباح، الدفع الإلكتروني للمساهمة الموحدة، مسك محاسبة مبسطة وذلك في إطار علاقة تعاقدية جديدة بين الدولة والفرد تبنى على الثقة والمسؤولية المتبادلة.
كما لابد من الإشارة إلى أن الانتفاع بصفة المبادر الذاتي يمتد على أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة فقط لمدة ثلاث سنوات ما يرسخ البعد المرحلي للنظام بوصفه آلية انتقالية نحو الاندماج في السوق كفاعل اقتصادي كامل الصفة، وقد حرصت وزارة التشغيل عبر الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل على توفير أكثر من 100 نقطة اتصال في مختلف جهات الجمهورية وخاصة في المناطق الداخلية بهدف توفير المرافقة الفنية والقانونية للراغبين في الترسيم وقد شمل هذا النظام بداية من سنة 2025 فئات جديدة من العاملين في المجال الرقمي والإبداعي على غرار المستقلين ومطوري البرمجيات وذلك وفق ما ورد في قانون المالية لسنة 2025 وهو ما يدل على وعي الدولة بضرورة مواكبة تطور أنماط الشغل غير النمطي.
هذا وشدد السيد الوالي على أهمية دعم الشباب وتشجيعهم على الانخراط في هذا النظام معتبرا إياه أحد الركائز الجوهرية لإعادة تنشيط الدورة التنموية المحلية وداعيا إلى إعداد برامج تكوينية عملية وميدانية تنطلق من الواقع وتراعي خصوصيات الجهات التسع للولاية بما في ذلك المناطق الريفية المعزولة التي غالبا ما تكون محرومة من آليات الدعم والمرافقة، وهو توجه ينبع من قناعة جهوية راسخة بأن التنمية لا يمكن أن تكون فعالة ولا عادلة ما لم تنطلق من العمق المحلي وتتمكن من الوصول إلى الشباب في دواوير الغابات والسهول والمنحدرات حيث تتقاطع الإرادة الفردية الصلبة مع فراغ البديل المؤسساتي، ومن هذا المنطلق تمت دعوة السادة المعتمدين إلى القيام بجلسات عمل دورية في معتمدياتهم بحضور كافة الأطراف المتدخلة من هياكل إدارية ومجالس محلية ومنظمات مهنية ومدنية من أجل وضع تصور مشترك لإنجاح البرنامج على المستوى المحلي.
كما تقرر تنظيم أيام إعلامية بمختلف المعتمديات للتعريف بنظام المبادر الذاتي داخل المؤسسات التربوية والثقافية وخاصة دور الشباب والثقافة وذلك بالتنسيق مع المصالح الجهوية للتشغيل والتكوين المهني بجندوبة ومختلف الأطراف الفاعلة من مجالس محلية ومجتمع مدني، وفي ذات السياق يجري النظر في تنظيم يوم إعلامي جهوي موسع بالتعاون بين الفرع الجهوي للاتحاد الوطني للمرأة التونسية والاتحاد الجهوي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وذلك قصد توحيد الرؤية والترويج الجماعي لهذا النظام، كما تمت دعوة هياكل المساندة على غرار محضنة المؤسسات، رئاسة جامعة جندوبة، وفضاء المبادرة إلى تكثيف تدخلاتهم التعريفية والتكوينية لاسيما في المناطق الريفية والحدودية قصد ضمان استفادة متساكني هذه الجهات من خدماتهم وبرامجهم ولتأطير كل هذه الجهود ضمن خطة قابلة للقياس والمتابعة تم التأكيد على ضرورة وضع برنامج عمل سنوي مضبوط بحسب الأهداف بالتنسيق مع السادة المعتمدين والمصالح الجهوية للتشغيل والتكوين المهني بما يضمن انخراط أكبر عدد ممكن من الشباب في نظام المبادر الذاتي وتحويله من فرصة نظرية إلى رافعة فعلية للتنمية القاعدية.
ومع كل هذه الإيجابيات، تبرز تساؤلات عميقة تتجاوز المعطيات التقنية للنظام وتستوجب طرحها بجرأة ومسؤولية فهل تمت تهيئة البنية التحتية واللوجستية في الجهات المهمشة ومنها جندوبة لضمان نجاح المبادرات الذاتية؟ هل توفرت شبكات التمويل الجهوي ومؤسسات المرافقة المهنية القادرة على تأمين ديمومة هذه المشاريع؟ هل أن التشريعات المواكبة من الجبابة إلى النفاذ إلى السوق تراعي الهشاشة الاقتصادية للفئات المستهدفة؟ ثم ما مصير الآلاف من الشباب الذين يتخرجون من التكوين المهني أو التعليم العالي في ظل ضعف حلقات الربط بين التكوين وسوق العمل؟
وإلى جانب هذه الأسئلة تبرز قضايا أخرى بالغة الأهمية حول كيفية ضمان استمرارية التكوين والتأهيل المهني للراغبين في المبادرة الذاتية؟ وهل ثمة تصور لإشراك القطاع الخاص والمؤسسات التمويلية واستثمار المسؤولية المجتمعية في دعم وتمويل المشاريع الصغيرة التي ينشئها المبادرون الذاتيون؟ وما دور الجهات الفاعلة محليا في تنشيط الشبكات الاقتصادية والتجارية خاصة في المناطق الحدودية حيث التحديات أكثر تعقيدا؟
وبالنظر إلى هذه الأسئلة فإن جندوبة التي شكلت عبر تاريخها مثالا للجهات المقاومة والصامدة تنتظر أكثر من مجرد برامج موسمية، إذ أنها تطالب اليوم بحقها في التمكين لا الإحسان، في السيادة الاقتصادية لا في الصدقة التنموية وتنتظر من نظام المبادر الذاتي أن يكون بوابة فعلية لتحقيق الكرامة لا مجرد تجربة إدارية، ولئن توفرت الإرادة السياسية والدعم المؤسساتي والمناخ القانوني المناسب فإن هذا النظام يمكن أن يكون أحد مفاتيح الحلول الممكنة للبطالة والفقر والتهميش في الجهة.
غير أن كل ذلك سيبقى رهين الفعل لا القول، فلا البطاقة الإلكترونية تكفي ولا المنصة الرقمية تفي بالغرض ما لم تكن مصحوبة بتحول فعلي في نظرة الدولة لمواطنيها خاصة في الأطراف، إذ إن اليوم الجهوي للتعريف بنظام المبادر الذاتي في جندوبة هو أكثر من مجرد موعد مؤسساتي، اختبار لجدية الدولة في تفكيك البنية التهميشية التي كرست المركزية وإنصاف الجهات التي طالها النسيان، فهنافي عمق الشمال الغربي الجواب لا ينتظر من الخطب الرسمية لكنه من مدى قدرة المواطن على النهوض بمشروعه من رحم المعاناة بإرادة القانون لا بفتات السياسات.