في عالم يزداد تعقيدا، حيث تتداخل المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية مع الديناميكيات السياسية لم يعد التكوين في إدارة المشاريع مجرد وسيلة لاكتساب المهارات التقنية بل أصبح ركيزة أساسية لإعادة تشكيل منظومات العمل والإنتاج، ففي ظل العولمة والتوجه نحو الحوكمة الرشيدة برزت الحاجة إلى قادة مشاريع قادرين على استشراف التحديات ووضع استراتيجيات متكاملة تضمن استدامة المشاريع وفعاليتها؛ وانطلاقا من هذه الضرورة الملحة يأتي التكوين الذي تنظمه الشبكة التونسية للوداديات بالتعاون مع مكتب Trenstep كخطوة تهدف إلى تعزيز كفاءات المسؤولين والمديرين وإعدادهم للحصول على شهادة PMP® المعترف بها دوليا بما يؤهلهم لقيادة المشاريع وفق أحدث المعايير العالمية.
مقالات ذات صلة:
"رائدات" يفتح الآفاق: تمويل مشاريع نسائية جديدة وانطلاق مشاريع طفولة بأريانة
ورغم أهمية هذا التكوين من الناحية الأكاديمية والمنهجية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو هل يكفي امتلاك أدوات التخطيط والتنفيذ لضمان نجاح المشاريع في تونس؟ أم أن العوائق الهيكلية بما فيها البيروقراطية المعقدة والموارد البشرية غير المؤهلة والضغوط السياسية والاقتصادية تفرض مقاربة أعمق تتجاوز حدود التكوين التقليدي؟
إن البرنامج التفصيلي لهذا التكوين الممتد على مدار خمسة أيام يعكس بشكل جلي محاولة منهجية لصقل المهارات الإدارية، بدءا من بناء فريق عمل متماسك، مرورا بوضع استراتيجيات التنفيذ، وصولا إلى تقييم الأداء والتعلم من التجربة،حيث تظهر محاوره التدرج المنطقي الذي يتناسب مع مراحل المشروع؛ اذ يركز اليوم الأول على توزيع الأدوار وبناء ثقافة عمل تعاونية، بينما يتمحور اليوم الثاني حول وضع أسس المشروع من تحديد نطاقه وأهدافه إلى تحليل المخاطر وإعداد الجدول الزمني، ثم ينتقل التكوين في اليوم الثالث إلى مرحلة التنفيذ الفعلي، متبوعا في اليوم الرابع بممارسات تحفيز الفريق وإدارة النزاعات، ليختتم في اليوم الخامس بتقييم النتائج واستخلاص الدروس المستفادة.
ورغم تماسك هذا البرنامج من حيث الهيكلة، فإنه يظل نظريا ما لم يقترن بفهم أعمق للسياق المحلي، فإدارة المشاريع ليست مجرد تطبيق لنماذج عالمية بل هي ممارسة تستوجب المرونة والقدرة على التكيف مع بيئات العمل المختلفة، وفي تونس على سبيل المثال يواجه مدراء المشاريع عقبات تتجاوز البعد التقني مثل غياب التنسيق بين الهياكل الإدارية وضعف آليات التمويل والتداخل بين المصالح السياسية والاقتصادية فهل يوفر هذا التكوين الأدوات اللازمة لمجابهة هذه التحديات أم أنه يقتصر على نقل المعرفة دون تمكين حقيقي للمتدربين؟
إن الرهان الحقيقي لا يكمن في مجرد الحصول على شهادة معتمدة بل في مدى قدرة المتدربين على تحويل المعرفة المكتسبة إلى حلول عملية تنهض بقطاع إدارة المشاريع في تونس، وهذا يستدعي إعادة النظر في طريقة التكوين بحيث لا تكون مجرد عملية تلقين للمفاهيم بل تجربة تحولية تعزز التفكير النقدي والاستراتيجي لدى المشاركين، فمن الضروري أن يتعلم مدير المشروع كيفية التعامل مع الأزمات غير المتوقعة واتخاذ قرارات سريعة قائمة على تحليل البيانات وتجاوز العقليات التقليدية التي تعيق الابتكار.
وعلى هذا الأساس، لا بد من إدراج محاور جديدة في التكوين تعزز الجوانب التطبيقية مثل تمارين المحاكاة ودراسات الحالة المستمدة من الواقع التونسي وورشات التفكير الاستراتيجي التي تساعد على إيجاد حلول مبتكرة للمشاكل القائمة؛ كما أن التركيز على المهارات القيادية والتواصلية إلى جانب المعرفة التقنية أمر جوهري لضمان نجاح أي مشروع خصوصا في بيئات العمل التي تتطلب تنسيقا بين مختلف الفاعلين من القطاعين العام والخاص ومنظمات المجتمع المدني.
وأحد الإشكالات الجوهرية التي تواجه المشاريع في تونس هو أن التخطيط الجيد لا يترجم بالضرورة إلى تنفيذ ناجح، فكثيرا ما تصطدم المبادرات بعوائق إدارية معقدة أو تفتقر إلى الدعم السياسي والمالي الكافي أو يتم إفراغها من مضمونها نتيجة غياب الرؤية الاستراتيجية،وهذا ما يجعل من الضروري ألا يقتصر التكوين على إعداد مدراء مشاريع يمتثلون للمعايير العالمية بل أن يكون جزءا من مشروع أوسع يهدف إلى إصلاح المنظومة ككل بحيث تصبح إدارة المشاريع أداة حقيقية للتنمية المستدامة لا مجرد مهارة إدارية تستخدم في نطاق ضيق.
وهنا يبرز التساؤل الحاسم هل سيتمكن المشاركون في هذا التكوين من تجاوز العوائق المؤسساتية التي تعرقل تنفيذ المشاريع أم أنهم سيجدون أنفسهم أمام منظومة تقاوم التغيير وتجبرهم على التكيف مع قيودها بدل تجاوزها؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ستتحدد ليس فقط بناء على محتوى التكوين بل وفقا لقدرة المتدربين على تفعيل ما تعلموه في بيئات العمل الحقيقية ومدى استعداد المؤسسات التونسية لاستقبال هذا الجيل الجديد من مدراء المشاريع بروح منفتحة على التغيير.
ففي نهاية المطاف، لا يمكن اختزال نجاح التكوين في عدد الحاضرين أو الشهادات الممنوحة بل في مدى تأثيره على أرض الواقع، فإدارة المشاريع ليست مجرد التزام بالمنهجيات المعتمدة عالميا بل هي ممارسة تتطلب رؤية نقدية وجرأة على التحدي وقدرة على تحويل الأفكار إلى مشاريع ملموسة تحدث فرقا حقيقيا.
ومن هذا المنطلق، فإن أي برنامج تكويني لا يهدف فقط إلى تحسين الأداء المهني بل يسعى إلى تكوين قادة مشاريع يفكرون خارج الصندوق ويتعاملون مع التحديات برؤية مبتكرة ويرسمون مسارات جديدة تعيد تعريف مفهوم النجاح في إدارة المشاريع؛ وبالتالي فإن نجاح هذا التكوين لن يقاس فقط بمدى التزامه بالمواصفات العالمية بل بقدرته على إحداث تغيير جوهري في الطريقة التي تدار بها المشاريع في تونس بحيث تصبح أكثر كفاءة وأكثر انسجاما مع الاحتياجات الفعلية للمجتمع وأكثر قدرة على تجاوز الأطر التقليدية التي تعيق التقدم؛ وعليه، يظل السؤال مفتوحا هل سيكون هذا التكوين خطوة نحو التمكين الفعلي أم مجرد حلقة أخرى في سلسلة التكوينات التي تعيد إنتاج نفس النموذج الإداري دون تأثير يذكر؟