تعتبر المنظومة المالية ركيزة أساسية للاستقرار الاقتصادي وتمثل الشيكات أداة دفع وائتمان تعكس فعالية هذه المنظومة، إلا أن الإشكالات المرتبطة باستخدامها في تونس مثل ارتفاع نسبة الشيكات دون رصيد ومحدودية فعالية الآليات القانونية لضمان تنفيذ الالتزامات فرضت ضرورة مراجعة تشريعية شاملة تتماشى مع التطورات الاقتصادية والمالية مع التركيز على تفعيل دور الكمبيالة كأداة دفع أكثر أمانا .
مقالات ذات صلة:
القانون الجديد للشيكات: وزيرة العدل تكشف تفاصيله وتوجهات التنفيذ في 2025
تحذيرات بضربة إسرائيلية وشيكة على العراق وسط مخاوف من تصاعد التوترات الإقليمية
تونس على أبواب ثورة مالية: تغييرات جذرية في قانون الشيكات تُحرر الاقتصاد وتعيد الأمل للمساجين!
وفي هذا الإطار تم عقدة ندوة من قبل "كنفدرالية مؤسسات المواطنة التونسية" لمناقشة الإصلاحات الجديدة التي طالت منظومة الشيكات وذلك تحت عنوان "التنظيم الجديد للشيكات: ما التأثيرات وما الحلول؟"، وقد مثلت هذه الورشة فرصة لاستعراض التعديلات القانونية الأخيرة ودراسة انعكاساتها على المعاملات المالية في ظل الحاجة الملحة إلى تحقيق توازن بين ضمان الشفافية المالية وحماية النشاط الاقتصادي.
تهدف الإصلاحات الجديدة إلى إعادة هيكلة العلاقة بين الشيكات والمناخ الاقتصادي العام، فالشيك الذي يفترض أن يكون أداة دفع ذات مصداقية تحول في بعض الحالات إلى وسيلة لتأجيل السداد أو التملص من الالتزامات مما أحدث حالة من عدم الثقة في التعاملات المالية.
هذا الواقع دفع المشرع إلى البحث عن حلول توازن بين حماية الحقوق المالية للأطراف وتعزيز الشفافية في المعاملات وشملت الإصلاحات المطروحة تطوير أدوات تكنولوجية تتيح رقابة أكثر فعالية بالإضافة إلى تشجيع استخدام الكمبيالة كسند تجاري يضمن تنفيذ الالتزامات بوضوح أكبر ويحد من مخاطر المعاملات غير الموثوقة.
ليصدر القانون رقم 41 لسنة 2024، الذي أدخل تعديلات جوهرية على استخدام الشيكات لتعزيز الثقة في المعاملات المالية وتقليل مخاطر الشيكات دون رصيد، اذ يفرض القانون على المصارف فتح حسابات بالشيكات للحرفاء الراغبين مع التحقق من وضعهم المالي لدى البنك المركزي واتخاذ تدابير لمنع إصدار الشيكات دون رصيد، كما يحدد سقف الشيك الواحد بـ30 ألف دينار ومدة صلوحية دفاتر الشيكات لا تقل عن ستة أشهر وتميز الشيك الجديد بإضافة رمز الاستجابة السريعة (QR Code) للتحقق من صحة المعلومات وتحديد مدة صلاحية بستة أشهر ومنع تظهيره لضمان أمان التعاملات، كما تم إلغاء تجريم الشيكات دون رصيد التي تقل قيمتها عن 5000 دينار مع إطلاق منصة إلكترونية في 2 فيفري 2025 تمكن المستفيدين من التحقق من توفر الرصيد قبل قبول الشيك، وفي المقابل لم يشهد تنظيم الكمبيالة تغييرات جوهرية إذ تظل أداة ائتمان قابلة للتظهير وتستخدم لتأجيل الدفع وتعتبر دليلا قانونيا على الدين المستحق مع إمكانية تنفيذها قضائيا بسهولة في حال عدم السداد، هذا ويشكل الفرق الأساسي بينهما في أن الشيك الجديد وسيلة دفع فورية مع ضمانات إضافية للأمان بينما الكمبيالة تستخدم كأداة ائتمان لتأجيل الدفع مع قابلية التداول بين الأطراف وتهدف هذه التعديلات إلى تعزيز ثقة الفاعلين الاقتصاديين في الأدوات المالية الحديثة وضمان سلاسة التعاملات التجارية في تونس.
علما وان التكنولوجيا المالية من بين أهم الحلول المطروحة بقوة حيث تم تقديم المنصة الرقمة " تونيشكا- Tunicheque " للتحقق من مصداقية الشيكات قبل إصدارها https://tunicheque.tn/، ولكن هذا التوجه رغم ضرورته في ظل التحولات الرقمية العالمية يفرض تحديات قانونية وتنظيمية أهمها مدى استعداد السوق المحلية لاعتماد هذه الحلول وتوفر الأطر القانونية لحمايتها من التجاوزات.
غير أن الرقمنة وحدها لا تكفي إذا لم تواكبها إصلاحات هيكلية تضمن تكافؤ الفرص بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين، فغياب إطار واضح لحماية البيانات المالية واعتماد آليات رقابية دقيقة قد يحول هذه المنصات إلى مجرد أدوات تكميلية دون أن تحقق الأثر المنشود في الحد من التجاوزات المرتبطة بالشيكات، ومن هذا المنطلق يمكن أن يكون انشاء الكمبيالة الرقمية ايضا بديلا فعالا حيث تتيح مستوى أعلى من الأمان القانوني وتوفر ضمانات إضافية للمستفيدين خاصة في ظل إمكانية تتبعها إلكترونيا وتقييد استخدامها وفق معايير دقيقة.
وفي ظل التشديدات القانونية الجديدة على استخدام الشيكات يبرز دور الكمبيالة كخيار أكثر أمانا لتنظيم المعاملات المالية، فعلى عكس الشيك الذي يستخدم عادة كضمان للسداد دون وجود سيولة فعلية تمثل الكمبيالة التزاما صريحا بالدفع في تاريخ محدد ما يمنحها مصداقية أعلى ويقلل من المخاطر المرتبطة بعدم توفر الرصيد.
اذ ان اعتماد الكمبيالة بشكل أوسع سواء في شكلها الورقي أو الرقمي ان وجد قد يسهم في تقليص عدد الشيكات دون رصيد، إذ تفرض التزاما واضحا بين الأطراف ما يقلل من النزاعات المالية ويسرع إجراءات التنفيذ، كما وأن تطوير إطار قانون وتسهيل الاجراءات من قبل البنوك المنخرطة في التطبيقة سابقة الذكر الذي سيشجع على استخدامها وسيمكن المؤسسات والمتعاملين الاقتصاديين من إعادة ترتيب علاقاتهم المالية وفق آليات أكثر استقرارا.
هذا ويمثل الشيك جزءا من المنظومة الاقتصادية وأي تعديل يطرأ عليه ستكون له تداعيات مباشرة على مختلف القطاعات، فالتشديد في الإجراءات رغم ضرورته لضمان مصداقية المعاملات قد يؤدي إلى لجوء بعض الفاعلين إلى حلول غير رسمية مما يفاقم مشكلات السوق السوداء، وفي المقابل فإن تقديم الكمبيالة كبديل موثوق يمكن أن يقلل من هذه المخاطر لاسيما إذا تم دعمها برقمنة المعاملات المالية وتعزيز آليات الضمان القانوني.
ولذلك، فإن أي إصلاح لا بد أن يكون جزءا من رؤية شاملة تتكامل فيها الأبعاد التشريعية مع الإصلاحات الاقتصادية وذلك لضمان مناخ مالي أكثر استقرارا، فالهدف ليس فقط تقليل عدد الشيكات دون رصيد بل إعادة الاعتبار لهذه الوسيلة كأداة دفع موثوقة ما من شأنه أن يدعم الثقة بين المؤسسات والمتعاملين الاقتصاديين ويحد من التجاوزات التي تؤثر سلبا على الدورة المالية.
في نهاية المطاف، لا يمكن النظر إلى هذه الإصلاحات بمعزل عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي العام فهي ليست مجرد تعديلات قانونية بل اختبار حقيقي لقدرة المنظومة المالية على التطور والتأقلم مع المتغيرات دون أن تفقد توازنها، ولعل إدماج الكمبيالة في صلب الإصلاحات يمثل خطوة نحو منظومة دفع أكثر شفافية بحيث تصبح المعاملات المالية أكثر أمانا واستقرارا بعيدا عن الإشكالات التقليدية التي عانى منها الشيك لسنوات طويلة.