في خضم التحولات والإصلاحات التي تشهدها تونس تبرز مكافحة تبييض الأموال كأحد أبرز التحديات التي تؤثر بشكل مباشر على مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فالحديث عن مقاومة الفساد والتلاعب المالي لم يعد ترفا مؤسساتيا أو شعارا عابرا لكنه أصبح ضرورة وطنية لحماية السيادة واستعادة ثقة المواطنين في الدولة ومؤسساتها، وفي هذا السياق يتأكد أن تعزيز قدرات الفاعلين في المجتمع المدني خاصة الجمعيات لم يعد خيارا بل أضحى ركيزة مركزية في منظومة الحوكمة والشفافية باعتبار هذه الكيانات ليست فقط مؤسسات خيرية تقليدية لكن أطرافا فاعلة في التنمية المحليةتتعامل مع التمويلات والتحويلات وتشتغل أحيانًا في فضاءات هشة ومعقدة.
ومن هذا المنطلق، أصبح التكوين في مجال إدارة مخاطر تبييض الأموال ضرورة مؤسسية ملحة تفرضها طبيعة التحديات العالمية وتعقيد النظام المالي الدولي إلى جانب اتساع دائرة الشبهات حول استغلال بعض الجمعيات كقنوات لتبييض الأموال أو التسلل عبرها إلى الداخل المالي والاجتماعي للدولة، وفي ظل هذا المشهد تبرز الحاجة إلى تحصين العمل الجمعياتي لا عبر الردع فحسب لكن عبر تعزيز "ثقافة وقائية" داخل الجمعيات نفسها تقوم على الوعي القانوني والمحاسبي والأخلاقي في كل مسار عملها.
مقالات ذات صلة:
نسيج الإرادة والوعي في رحاب التنمية المستدامة والحوكمة الرشيدة في تونس
الارتقاء بأداء وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية: خطة نحو التنمية والحوكمة
كاف يعلن عن فتح تحقيق داخلي في مزاعم فساد: مساعٍ لتعزيز الحوكمة والشفافية
ورغم تفاعل تونس الإيجابي مع التوصيات الأممية والتقارير الصادرة عن مجموعة العمل المالي الدولية (GAFI) ومراجعة المنظومة القانونية على غرار القانون عدد 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، فإن الإشكال يكمن في الفجوة بين النصوص القانونية والتطبيق الميداني خاصة في ظل غياب منظومة تكوين دائمة ومتخصصة تترجم المبادئ النظرية إلى أدوات وإجراءات عملية.
في هذا الإطار، جاءت الدورة التكوينية الأخيرة التي نظمها "مركز إفادة للجمعيات" حول "إدارة مخاطر تبييض الأموال في إطار الحوكمة ومكافحة الفساد" والتي قدمها الدكتور ياسين سلامة لتشكل لحظة وعي جماعي بأهمية إدماج مفاهيم الوقاية القانونية في بنية العمل الجمعياتي، وقد ركزت الدورة على مقاربات عملية تساعد الجمعيات على التوقي من الانزلاق العرضي أو المنهجي في شبكات غسل الأموال خاصة في ظل غياب ثقافة رقابية داخلية أو ميثاق شرف واضح يضبط المعايير الأخلاقية والإدارية لسير عملها.
وقد تم الربط خلال هذا التكوين بين التشريعات الوطنية مثل القانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 ومرسوم الجمعيات عدد 88 لسنة 2011 والقانون عدد 54 لسنة 2019 المتعلق بالسجل الوطني للمؤسسات والمرسوم عدد 10 لسنة 2022 المحدث للهيئة التونسية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد والأمر عدد 419 لسنة 2019 المتعلق بالتصريح بالشبهات وبين الإطار الدولي من خلال اتفاقية باليرمو لمكافحة الجريمة المنظمة واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد وتوصيات مجموعة العمل المالي (GAFI) وغيرها من المرجعيات الأخلاقية والمحاسبية التي تنظم عمل الهيئات غير الربحية .
وفي قراءة نقدية للتجربة التونسية، نلاحظ أن التحدي لا يكمن فقط في كشف المخاطر بل في القدرة على التوقي منها قبل أن تتحول إلى أزمات ثقة أو حملات إعلامية أو حتى شبهات قضائية تربك الفضاء الجمعياتي وتهدد مصداقيته خصوصا عندما يتعلق الأمر بجمعيات ناشطة في المناطق الريفية أو في مجالات اجتماعية حساسة حيث يسهل الاستغلال أو الإغراء بالتمويلات المشبوهة، وهنا تتأكد الحاجة إلى مقاربات شمولية تتجاوز منطق الزجر والرقابة التقليدية نحو بناء ثقافة مؤسسية قائمة على الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة والتمكين القانوني والإداري للكفاءات داخل الجمعيات.
ومن زاوية أعمق، فإن تأهيل المجتمع المدني لا يعني تفويت دور الدولة لكنها تعميق لدورها كضامن للحوكمة ومرافق لعملية الإصلاح من الداخل إذ أن ارتقاء الجمعيات بمستوى الشفافية والمسؤولية يعزز شراكتها مع الدولة ويمنحها شرعية أكبر، وهذا ما يستدعي في مستوى السياسات العمومية دعما فعليا لبرامج التكوين في الحوكمة المالية ومأسسة العلاقات بين الجمعيات والهيئات الرقابية مثل اللجنة التونسية للتحاليل المالية والبنك المركزي ضمن رؤية وطنية لا تعتبر المجتمع المدني خصما أو بديلا بل حليفا استراتيجيا .
وفي المحصلة، فإن مقاومة تبييض الأموال ليست مجرد معركة قانونية أو تقنية لكنها معركة قيم تخاض في مؤسسات الدولة كما في صميم المجتمع المدني وبأدوات قانونية ومعرفية تزرع ثقافة اليقظة والمساءلة وتعيد بناء الثقة من جديد فهل نحن مستعدون حقا لبناء جبهة يقظة لا تكتفي بالشعارات لكنها تؤسس لثقافة قانونية جمعية جديدة ترفع سقف الشفافية وتحمي البلاد من الانزلاقات والاختراقات المالية القادمة؟