في سياق الحاجة الملحة إلى إعادة تشكيل النموذج الإداري للدولة التونسية على أسس من الشفافية، النزاهة، النجاعة مثلت الورشة التعريفية التي نظمتها جمعية إطارات الرقابة والتفقد والتدقيق بالهياكل العمومية التونسية بالشراكة مع مكتب التكوين والخبرة ISCT-GROUP حول متطلبات إرساء نظام تصرف لمكافحة الرشوة وفق المعيار الدولي ISO 37001 لحظة معرفية محورية تتجاوز بعدها التكويني نحو أفق إصلاحي بنيوي يربط بين المنظور الأخلاقي للإدارة العمومية والمنظور التقني لإعادة هندستها بإشراف من السيد عادل غزي وتنشيط الخبير السيد ماهر العيادي.
إذ لم يعد كافيا في السياق الوطني الحديث الاكتفاء بالإجراءات الظرفية أو الحملات المؤقتة لمكافحة الفساد بقدر ما أصبح من الضروري إرساء أنظمة مستدامة ومتكاملة تبنى على المرجعيات الدولية الرصينة وتكيف مع واقع الإدارة التونسية بكل تعقيداته وهو ما يوفره معيار ISO 37001 الذي لا يعتبر مجرد وثيقة تنظيمية لكن منظومة حوكمة دقيقة تمكن المؤسسات بمختلف أصنافها من إنشاء وتفعيل سياسة شاملة لمكافحة الرشوة تمتد إلى كل مستويات التسيير من صياغة العقود إلى اتخاذ القرار ومن علاقة الموظف بزملائه إلى تعامله مع الأطراف الخارجية.
ويستند هذا النظام إلى تعريف دقيق للرشوة باعتبارها كل عرض أو وعد أو تقديم أو طلب أو قبول ميزة غير مستحقة سواء مباشرة أو عبر وسيط بقصد التأثير على أداء واجب معين وهو تعريف لا يقتصر على الفعل المادي لكنه يشمل السياقات الرمزية والهيكلية التي تسمح بحدوث الرشوة أو تُطبع معها، ومن هنا يتجاوز ISO 37001 الوظيفة الوقائية نحو تأسيس ثقافة امتثال مؤسسية تجعل من مقاومة الفساد مبدأً متأصلا في بنية التفكير الإداري لا مجرد رد فعل ظرفي أمام الانكشافات.
وفي هذا السياق، تعد الحوكمة من الركائز الأساسية لأي منظومة إدارية تسعى لتحقيق الشفافية والنجاعة والمساءلة، فهي منظومة من القواعد والآليات تنظم كيفية اتخاذ القرارات داخل المؤسسات وتضمن أن تكون هذه القرارات شفافة، مسؤولة، عادلة وخاضعة للرقابة وترتكز الحوكمة على مبادئ مركزية أساسية ألا وهي الشفافية، المساءلة، المشاركة، العدالة، سيادة القانون والفعالية، وتعتمد على هياكل تنظيمية واضحة تشمل الإدارة والرقابة والمجتمع وتطبق في كل من القطاع العام، الشركات، المنظمات غير الحكومية والحوكمة المحلية.
وقد أكدت الورشة من خلال العروض التقنية والتفاعلات الحية أن بناء منظومة فعالة لمكافحة الرشوة لا ينفصل عن شرط مركزي يتمثل في تكوين كفاءات بشرية واعية وقادرة ومدربة على تحليل السياقات المؤسسية وعلى تنفيذ النظم بإحكام وعلى التفاعل مع بيئة معقدة دون الوقوع في الشكليات أو التوظيف السياسي، فالعبرة ليست بتبني النظام إنما بقدرتنا على جعله جزءا حيا من عملية اتخاذ القرار اليومي من خلال آليات الرصد، التبليغ الآمن، المساءلة الداخلية، التدقيق المستقل والتقارير الدورية القابلة للقياس والمراجعة.
ذلك أن البيروقراطية التي تنتج الفساد ليست بالضرورة وليدة غياب القانون لكنها في أغلب الأحيان نتيجة تراكمات من الممارسات الإدارية الغامضة وغياب المسارات الواضحة وتشتت المسؤوليات مما يجعل من الرقمنة والتحول الرقمي عنصرا جوهريا في هذا البناء، فالأنظمة الحديثة لمكافحة الفساد ترتبط ارتباطا وثيقا بتقنيات المعلومات حيث تسمح أدوات الرقابة الإلكترونية ومنصات التصريح ونظم إدارة الوثائق بجعل العمليات شفافة، قابلة للتتبع ومحمية أكثر من التلاعب.
ولأن الرشوة ليست فقط مشكلة أخلاقية بل هي أيضا عائق اقتصادي يعمق الفوارق ويشوّه آليات السوق ويضعف ثقة المستثمر، فإن الورشة سلطت الضوء كذلك على أهمية اعتماد ISO 37001 في المؤسسات العمومية والخاصة على حد سواء وعلى ضرورة إدماجه ضمن إطار أوسع من معايير الجودة الأخرى مثل ISO 9001 لنظام إدارة الجودة، ISO 14001 في إدارة البيئة، ISO 45001 للسلامة والصحة المهنية، وISO 27001 لأمن المعلومات بما يرسخ مقاربة تكاملية وشمولية للإصلاح الإداري والحوكمة المؤسسية، وهذا من أجل ترسيخ مقاربة شمولية للإصلاح الإداري تجمع بين النزاهة، الكفاءة، والامتثال لمعايير دولية.
كما أن تعزيز هذا التوجه يقتضي تطوير التشريعات الوطنية ومنها القانون عدد 10 لسنة 2017 المتعلق بالإبلاغ عن الفساد ومزيد تفعيل دور الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وضمان استقلالية هياكل الرقابة والتفقد والتدقيق، كما لابد من الانفتاح على المواثيق الدولية مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC)، التي تلزم الدول باتخاذ تدابير تشريعية وإدارية وقضائية فعالة وتجريم الأفعال المرتبطة بالرشوة وغسل الأموال والثراء غير المشروع.
في المقابل من الأخطاء الشائعة التي تفرغ نظم الحوكمة ومكافحة الفساد من محتواها الحقيقي نذكر على وجه الخصوص الاعتماد على الشكل دون المضمون مثل تطبيق شكلي للمعايير دون تغيير فعلي في ثقافة المؤسسة، غياب المتابعة والتقييم بعد الاعتماد، تسييس أدوات الرقابة أو استخدامها كأدوات لتصفية الحسابات، ضعف التكوين والوعي بالقوانين والإجراءات وأيضا الازدواج في المسؤوليات وغياب المساءلة الفعلية ولا يقتصر هذا الإنجاز على البعد التقني فحسب لكنه يعكس إرادة سياسية حقيقية في تفعيل مبادئ الشفافية والمساءلة داخل الإدارة التونسية، ومن هنا تبرز أهمية تعميم تطبيق معيار ISO 37001 ليشمل كافة الهياكل العمومية من الوزارات إلى البلديات والولايات والمعتمديات والمؤسسات والمنشآت العمومية الخاصة وحتى الجمعيات والمنظمات بهدف إرساء ثقافة حوكمة استباقية وتعزيز آليات الرقابة الذاتية والتدقيق الداخلي وبناء منظومة مؤسسية مستدامة تقوم على الامتثال والنزاهة.
وهكذا، لم تكن الورشة مجرد تقديم لمعيار تقني لكنها مثلت إعادة طرح جذرية لسؤال مهم جدا حول كيفية بناء مؤسسات دولة تقاوم الانحراف لا لأنها تخاف من العقاب بل لأنها مؤمنة بمنطق الوظيفة العمومية كمجال لخدمة الصالح العام في قطيعة واضحة مع ثقافة التساهل أو التطبيع مع الممارسات المنحرفة، فلقد عكست النقاشات أن الإصلاح لا يكون إلا بتغيير المفاهيم واللغة الإدارية ومسارات التأهيل والإرادة السياسية لتصبح الإدارة التونسية إدارة صامدة، شفافة، مرنة، ومنفتحة على المعايير العالمية دون تفريط في خصوصياتها السيادية.
هذا ويعد الرهان الحقيقي لمكافحة الرشوة ليس فقط في الأدوات ولكن في الوعي العميق بكونها سرطانا يضعف الدولة من داخلها ويجعلها عرضة للاهتراء والتفكك وهو ما يجعل من هذه المبادرات أكثر من تدريب بل خطوة نحو عقد اجتماعي جديد بين الدولة ومواطنيها قوامه الثقة والمساءلة والعدالة والشفافية.