بقلم عزيز بن جميع
في عالم موسيقيّ تعصف به رياح الاستسهال، وتغرقه موجات التكرار، يسطع اسم منير المهدي كقنديل مضيء في نفق طويل، كغيمة محمّلة بالمطر في زمن الجفاف. صوته ليس صوتًا فقط، بل هو وهج، دفء، وسكينة. هو هديل الروح حين تتعب، ورفيف القلب حين يخفق حبًّا وحنينًا. حين يغنّي، يتهذّب الهواء، وتتطهّر اللحظة من شوائب الزمن.
ليس في منير المهدي مجرّد أداء، بل انصهار تام بين الكلمة واللحن، بين الإحساس والوجدان، بين الطرب والتراث. هو لا يُنشد… هو يُناجي. لا يُطرب… بل يُوجِد كونًا من النغم يسكنه الحالمون، ويهيم فيه عشاق الفن الصافي.
بين أريانة والكمنجة… ميلاد نغمة عربية
منير المهدي هو وردة أريانة… بل هو عطرها إذا تنفّس، ونورها إذا أشرق. مدينة تحبّ الفنّ أنجبته، فأحبّها وغنّاها، فبادلته الأحياء والأزقّة حبًّا بصوتٍ لا ينسى. في أغنية "ورد أريانة"، يزهر الحنين، وتورق الذكريات، وتفتح المدينة نوافذها لصوتٍ يطوف فوق السطوح، ويعانق المآذن.
أما "الكمنجة"، فليست مجرد عنوان لأغنية… بل هي رفيقة دربه، حبيبته الأولى، وتوأم صوته. في تلك الأغنية، تهمس الأوتار بما لا تقوله الكلمات، وتبكي المقامات شوقًا إلى زمن الفنّ الجميل. الكمنجة في يد منير المهدي ليست آلة… بل كائنٌ حيّ، يئنّ إذا اشتدّ الوجع، ويغنّي إذا ابتسم القلب.
حفلات كأنّها سِفرُ عشق
في السهرات الخاصّة، لا يكون منير المهدي مطربًا فحسب، بل يكون سيد المقام، وساحر اللحظة، ومهندس الذكرى. الجمهور لا يُصفّق فقط… بل يُصغي بعيونه قبل أذنيه، يُذيب صمته في عذوبة اللحن، ويتحول المكان إلى مقام من مقامات العشق الصوفيّ.
أضواء خافتة، عيون مشدوهة، أنفاس مقطوعة، ونغمة تتصاعد كدعاء في جوف الليل. حين يبدأ، ينسحب الضجيج، ويُفرش الصمت بساط الاحترام. حين ينتهي، لا ينطفئ شيء… بل يبقى صداه معلّقًا في زوايا الأرواح.
صوت من سلالة الشحرور
يُشبه منير المهدي الطيور المهاجرة، تلك التي تحمل الدفء في جناحيها وتغني للمسافات وللأوطان. صوته شحرورٌ من زمنٍ آخر، فيه نعومة الرذاذ، ودفء الغروب، وجرأة السكون. هو ليس مجرّد حنجرة، بل هو آلة وترية من صنع القدر، صُقلت بالألم، وصُمّمت بالحبّ، وعزفتها الحياة.
منير المهدي لا يحتاج إلى ضجيج، بل يحتاج إلى إنصات. لا يلهث خلف الأضواء، لأنها تسكن فيه. لا يتلوّن مع الموجة، بل يصنع مدّه الخاص وجزره. إنّه يغني كما يُصلّي العاشق، وكما يبكي الفاقد، وكما يحلم الشاعر.
منير… وُلد ليكون استثناءً
في هذا الزمن المتسرّع، حيث تُصنع النجومية في استوديوهات الفراغ، ويُقاس الفنّ بعدد المشاهدات، يقف منير المهدي، صامدًا، شامخًا، ثابتًا. لا يتنازل، لا يُقلّد، لا يُساوم. أغنيته عمل فنيّ مكتمل، قصيدة مشغولة من ذهب الصوت، ومن حرير الإحساس.
كل نغمة عنده مسؤولة، كل كلمة موضوعة في ميزان الدقّة. تراه ينتقي كلماته كما ينتقي العاشق وردةً واحدة من بستان، ويختار ألحانه كما تختار الأمّ اسم مولودها الأوّل. هو لا يغنّي ليملأ الوقت، بل ليملأ الفراغ الجماليّ الذي خلّفته أصوات باهتة، وألحان مبتورة.
اللغة حين تلبس صوتًا
في منير المهدي، تنطق العربية بلسانٍ عذب، رقراق، رائق. المفردة تتطهّر بين شفتيه، وتتحوّل إلى نغمة خاشعة. اللغة عنده ليست وسيلة، بل غاية. ليست أداة، بل بطلة. كل حرفٍ عنده له وزن، وكل مقطع له مقام، وكل بيتٍ له لحظة سكون قبل أن يُقال.
إنّه فنّان يُعلي من شأن اللغة، يُعيد إليها بهاءها، ويمنحها صوتًا يُشبه مآذن الأندلس إذا صدحت، ويشبه خرير النهر إذا سال في حضن الطبيعة.
الخاتمة… أو بداية الرحلة
منير المهدي ليس مجرّد صوت يُطرب، بل هو تجربة فنية متكاملة. هو وعدٌ بالطرب، وحلمٌ بالجمال، وإصرار على أن الفنّ الحقيقي لا يموت، بل يُقاوم، ويعود، ويتألق من جديد.
في زمنٍ يحسب النجومية بالأرقام، يثبت منير أن القيمة في العمق، وأن البقاء للذي يُغني بصدق، لا الذي يصرخ ليُسمَع.
منير المهدي… قصيدة تُغنّى، وأغنية تُكتَب، وصوتٌ يُحبّ، ويُحفر في الذاكرة… كالوشم، كالوتر، كالوطن.