اختر لغتك

الدكتور الصحبي بن منصور لـ"توانسة": الأنظمة تسقط حين تفقد المشروعية لا حين تفقد السيطرة

الدكتور الصحبي بن منصور لـ"توانسة": الأنظمة تسقط حين تفقد المشروعية لا حين تفقد السيطرة

الدكتور الصحبي بن منصور لـ"توانسة": الأنظمة تسقط حين تفقد المشروعية لا حين تفقد السيطرة

حاوره: منصف كريمي

في زمن تتناسل فيه الفتن من رحم الأزمات، وتتحول فيه المعارك من ساحات الجغرافيا إلى أعماق الوعي، يبرز سؤال ملحّ: أين النخبة؟ وأي دور يمكن أن تلعبه في مجتمعات تمزقها الصراعات ويعصف بها الضياع القيمي؟ في هذه اللحظة الملتبسة من تاريخنا العربي، التي يختلط فيها الخطاب بالدعاية، والمعرفة بالرأي، والضمير بالمصلحة، يصبح من الضروري أن ننصت لا إلى الضجيج، بل إلى الصوت الفكري الهادئ، العميق، والملتزم.

وهذا ما يدعونا اليوم إلى لقاء خاص، استثنائي في عمقه، مع الدكتور الصحبي بن منصور، وهو من الأصوات الفكرية التي تمشي على الحافة، فلا تستسلم لسلطة الواقع، ولا تنزلق إلى مثالية التجريد.

ضيفنا اليوم درس تاريخ المؤسسات، وانشغل بقراءة التحولات الاجتماعية من منظور نقدي- مقاصدي، وكتب في قضايا الإصلاح، والضمور الثقافي، ودور النخبة في العالم العربي بين التخلي والتواطؤ كما تميز بكتاباته التي تمزج بين تحليل ابن خلدون، وقلق الكواكبي، ووضوح مالك بن نبي،وفي زمن الغلبة والانحياز، اختار محدّثنا أن يظل في صف "القلائل" الذين يصرّون على أن النخبة ليست وظيفة أكاديمية، بل رسالة وجودية. 

في هذا اللقاء الذي جمعنا به، حاولنا أن نستفز ذاكرته الفكرية، وأن نغوص في تصوره لدور النخبة في زمن تاهت فيه البوصلات، وتفككت فيه الجوامع، وتصدّعت فيه اللغة ذاتها. فكان هذا الحديث شهادة فكر، ووقفة تأمل، في لحظة مفصلية.

وعن سؤال أننا في زمن تتكاثر فيه الأزمات، وتتعمق فيه الفتن، وتتشظى فيه المجتمعات بين تيارات متنازعة، ما الذي بقي من دور النخب؟ هل ما زالت قادرة على الفعل والتوجيه؟ أجاب الدكتور الصحبي بن منصور بأنه سؤال وجيه، لكنه موجع في الآن ذاته، لأنّ النخب في معناها الحقيقي هي ضمير الأمة، عقلها الجمعي، وبوصلتها الأخلاقية والفكرية. لكن للأسف، في كثير من الأقطار، تحولت النخب إلى ظواهر صوتية أو إلى كائنات هامشية، موضّحا في سياق متصل أنّ الأزمة ليست فقط أزمة أنظمة، بل هي أزمة نخبة خانت دورها أو صمتت. 

أعظم المفكرين لم يكن لهم منبر ومع ذلك غيّروا مجرى التاريخ وعندما أشرنا إليه هل أننا نتحدث عن خيانة فكرية أم عن عجز موضوعي فرضته الظروف؟ بيّن محدثنا أنّ الخيانة قد تكون بالصمت، وقد تكون بالتحالف مع القوي ضد الضعيف، ملاحظا أنه حين تصمت النخبة أمام الجهل، والتطرف، والطغيان، فإنها تفقد شرعيتها الرمزية. أما العجز، فهو مفهوم تبريري أحيانًا. 

وفي معرض حديثنا معه حول النخب المحاصرة بين إعلام موجه، وتمويل مشروط، ومجتمع لا يقرأ. قال الدكتور بن منصور إنه لا يمكن إنكار هذه العوامل، مستدركا أنّ النخبة لا تُقاس فقط بحجم حضورها في وسائل الإعلام، بل بقدرتها على التأثير في الوعي، ولو في هامشه، حيث أنّ بعض أعظم المفكرين لم يكن لهم منبر، ومع ذلك غيّروا مجرى التاريخ. الإشكال هو في إرادة الفعل، لا في الوسيلة فقط.

وعند مواجهته بسؤال كيف يمكن للنخب أن تستعيد دورها في زمن الحرب والفتنة، حين تسقط المفاهيم وتُختزل القيم في شعار "من ليس معنا فهو ضدنا"؟  أجاب بأنه هنا يُختبر معدن النخبة الحقيقي. إما أن تذوب في الاصطفاف الأيديولوجي، فتفقد استقلالها، أو أن ترتفع إلى مستوى المهمة التاريخية: كشف الحقيقة، حماية الوعي، رفض التبسيط، وفتح نوافذ للتأمل، باعتبار أنّ النخبة يجب أن تكون صوت العقل في بحر الجنون، لا صدى له.

بناء علاقة جديدة بين النخبة والمجتمع تقوم على الصدق لا على الوصاية:

ولدى جوابه عن استفسارنا هل يعتقد أنّ لدينا في العالم العربي اليوم نخبًا بهذا المستوى؟ أكد أنّه لدينا أفراد، نعم. لكن لم تتشكل بعد "نخبة عضوية"، كما يسميها غرامشي. أي نخبة مرتبطة عضوياً بشعبها، بحاجاته، بتاريخه، بحلمه في التحرر. لذلك نحتاج من وجهة نظره إلى إعادة تأسيس علاقة جديدة بين النخبة والمجتمع، علاقة تقوم على الصدق لا على الوصاية. 

وكان رده حول سؤالي:  في حديثكم عن النخبة، لمستم نقطة جوهرية وهي علاقة النخبة بالحقيقة والوعي. ولكن ألا ترون أن الحقيقة نفسها باتت نسبية اليوم؟ وأنه في زمن "ما بعد الحقيقة" و"الإعلام الموجَّه"، كيف يمكن لنخبة أن تدّعي امتلاكها للحقيقة؟ بأنّ هذا السؤال فلسفي في عمقه. طالما أنّنا نعيش ما يسميه بعض المفكرين بـ"زمن ما بعد الحقيقة"، حيث تتوارى الوقائع خلف الخطاب، وحيث يتحول الرأي إلى "حقيقة عاطفية". وأضاف قائلا: لكن دعني أستحضر هنا ابن رشد، حين قال: "الحقيقة لا تضاد الدين، بل العقل إن استُعمل حق استعماله لا يؤدي إلا إلى الحقيقة". فما نحتاجه اليوم هو نخبة تتقن التفكيك، لا التهويل. نخبة تسير على خيط رفيع بين الصدق الأخلاقي والذكاء البراغماتي، دون أن تسقط في أحد طرفي النقيض. 

وفي تعليقي عليه بأننا نرى أن كثيرًا من المفكرين حين يسعون إلى التأثير، يضطرون للتنازل عن القيم لصالح الفعالية السياسية. وأنه ألم يُصبح البراغماتيون أكثر قدرة على التأثير من "الحالمين الأخلاقيين"؟ شاطرني الدكتور بن منصور الرأي قائلا: نعم، ولكن على أي حساب؟ التأثير السريع لا يعني الفعل العميق. الفكر الفلسفي يعلّمنا أنّ هناك "قوة ناعمة" قد تكون أفعل من العنف المادي. تذكّر أنّ سقراط مات مسمومًا، لكنه لا يزال حيًا في الضمير الإنساني. بينما مات من أمر بقتله ولم يبك عليه التاريخ. ثم إننا كأمة إسلامية نملك نموذجًا راقياً في الجمع بين الأخلاق والسياسة: النبي محمد ﷺ، الذي قال له ربه: "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" [آل عمران: 159]. فالقوة الأخلاقية ليست ضعفًا، بل هي جوهر القيادة النبوية.

قلت له إذن، هل تدعو النخبة إلى أن تكون "دعوية" الطابع؟ أقصد: أن تستلهم النموذج الرسالي لا النموذج السياسي الغربي؟ فكان جوابه على النحو الآتي: أنا أدعو إلى أن تستعيد النخبة وظيفتها الرسالية، ولكن دون أن تنغلق على نموذج واحد. الفكر العربي نفسه عرف تعدد الرؤى: من السياسة الشرعية عند الماوردي، إلى المقاصدية عند الشاطبي، إلى النقد الحضاري عند ابن خلدون. لكن الأصل أن تلتزم النخبة بثلاثة أركان: أولا الصدق المعرفي،  ثانيا الضمير الأخلاقي، ثالثا الوعي التاريخي. ومَن فقد أحد هذه الأركان، أصبح جزءًا من المشكلة لا من الحل. 

شهداء المعنى في زمن التفاهة:

وبسؤالي له هل هناك أمثلة معاصرة لنخب عربية حققت هذا التوازن؟ أوضح محدثي أنها قليلة، لكن موجودة. وأضاف: لن أذكر أسماء حتى لا أختزل الفكرة في الأشخاص. ولكن هناك مفكرون استطاعوا أن يكونوا صوتًا للحق، حتى وهم في المنفى، أو في السجون، أو في العزلة. هؤلاء هم "شهداء المعنى" في زمن التفاهة، كما وصفهم الكواكبي في طبائع الاستبداد حين قال: "إن الأمة التي لا يشعر أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية". 

وبشأن هل النخبة اليوم قادرة على لعب دور "الضمير" في ظل هيمنة رأس المال والإعلام وتكنولوجيا التضليل بيّن الدكتور الصحبي بن منصور أنّه قد لا تملك النخبة السلطة، لكنها تملك المشروعية. وهذا أخطر. فالأنظمة تسقط حين تفقد المشروعية، لا حين تفقد السيطرة. والنخب، إن استعدت مصداقيتها، يمكنها أن تستعيد زمام التأثير حتى عبر وسائل جديدة كالإعلام البديل، والمحتوى الرقمي الحر، والشبكات الفكرية العابرة للقُطْريات. 

وقال إنّ النخبة لا تملك رفاهية الحياد في زمن الفتنة. إما أن تكون نورًا في عتمة، أو تصير جزءًا من الظلام. والتاريخ لا يرحم من اختار الصمت حين كان الكلام فرضًا.

وأضاف بأنّه ممّا لا ريب فيه أنه في زمن الحروب، تسكت البنادق العقل. وفي زمن الفتن، يعلو صوت الغرائز على صوت الحكمة. لكن النخبة الحقيقية هي تلك التي تُشعل مصباح الوعي في ظلمات الانقسام، وتعيد تعريف الوطن خارج الاصطفافات، وتذكّر الناس بأن الحقيقة لا تموت، بل تُغتال مؤقتًا... لتعود بأقوى مما كانت. 

آخر الأخبار

الدكتور الصحبي بن منصور لـ"توانسة": الأنظمة تسقط حين تفقد المشروعية لا حين تفقد السيطرة

الدكتور الصحبي بن منصور لـ"توانسة": الأنظمة تسقط حين تفقد المشروعية لا حين تفقد السيطرة

ثلاثي الإفريقي في مرمى الرحيل خلال الميركاتو الشتوي

ثلاثي الإفريقي في مرمى الرحيل خلال الميركاتو الشتوي

وزير الأمن القومي الإسرائيلي يقتحم مجددًا باحات الأقصى وسط توتّر إقليمي متصاعد

وزير الأمن القومي الإسرائيلي يقتحم مجددًا باحات الأقصى وسط توتّر إقليمي متصاعد

قوات الاحتلال تهاجم أسطول الحرية في المياه الدولية وتحتجز ثماني سفن

قوات الاحتلال تهاجم أسطول الحرية في المياه الدولية وتحتجز ثماني سفن

ميلوني ووزراءها أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهم “التواطؤ في إبادة جماعية” في غزة

ميلوني ووزراءها أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهم “التواطؤ في إبادة جماعية” في غزة

Please publish modules in offcanvas position.