المُختلف حوله في قراءة التاريخي والسردي يظل مثار جدلٍ مفتوح، ومجالا لمواجهة الكثير من مقموعات التاريخ، ومن خُدع السرد، ففضلا عما يثيره التاريخي من امتثال فاضح لمركزية السلطة ومدوّنيها، فإنّ السردي يستدعي بالضد نزوعا إلى تمثّلات وتخيّلات، يكون بطلها هو الحكواتي الحر، والسارد الحر، والروائي الحر.
كتاب “التاريخي والسردي في الرواية العربية” للناقد العراقي فاضل ثامر يضعنا أمام “المُختلف حوله” بين التاريخي والسردي في تناولهما للتاريخ، وعبر مستويات من القراءات والمقاربات النقدية، والتي تنطلق مما يمكن أنْ تثيره شفرات “المسكوت عنه” و”المفقود” في تاريخنا العربي، إذ تمثل موضوعات الفقد المكاني، والفقد الهوياتي، والفقد الوجودي مستويات سسيولوجية وأنثربولوجية حاول الباحث من خلالها أنْ يستقرئ إشكالات العلاقة ما بين التاريخ والسرد، وعبر ما أثارته الرواية العربية، بوصفها الفن الأحدث، من أسئلةٍ تتعلق بالامتثال للمتخيّل التاريخي كما هي عند المويلحي وأبي الثناء الآلوسي وجورجي زيدان، مقابل التعاطي مع المُتخيَّل السردي كما هو في الروايات العربية الحديثة.
السرد والتاريخ
يقول الباحث في المقدمة “كتابي النقدي هذا محاولة لقراءة الرواية العربية الحداثية وما بعد الحداثية في تعاملها مع التاريخ بين الامتثال لفتنة التخييل كليا وإعلان القطيعة مع ما هو تاريخي ورسمي، وبين محاولة خلق تاريخ بديل يشاكس التاريخ الرسمي الذي هو تاريخ الملوك والسلاطين والحكام المنتصرين”.
وهذا الكتاب، الصادر عن داريّ ابن النديم في الجزائر، والروافد الثقافية في بيروت 2017، تتمة لمشروع نقدي ابتدأه الباحث مع كتبه “المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي” و”اللغة الثانية/ إشكالية النظرية والمصطلح” و”المبنى الميتاسردي في الرواية”، والذي يواصل عبره جهدا نقديا لقراءة العديد من الروايات العراقية والعربية، ومن خلال مقاربة مستويات التعالق المفهومي والاصطلاحي والإجرائي ما بين الكتابة السردية في سياقاتها المعرفية وبين التاريخ بكل مدوناته، وتحولات خطابه وإلحاقاته لنصوص السيرة والرحلات والأسفار والمغازي وغيرها.
العتبة النقدية الأبرز التي يتناولها ثامر هي “التاريخي في رواية ما بعد الحداثة”، حيث يحاول تقديم مدخل قرائي لمقاربة التاريخ في أطروحات المشاغل النقدية والفلسفية المعاصرة، والتي وجدت في أطروحات ما بعد الحداثة مجالا لتفكيك المركزيات المهيمنة، وباتجاه مقاربة للسري والهامشي والمقموع، فضلا عن عكوفه على مراجعة ثقافية لأفكار بول ريكور وليندا هتشيون وبراندا مارشال وسيمون مالباس وهايدن وايت وغيرهم، بتحليل إجراءاتهم في التعاطي مع السرد بوصفه مجالا لإعادة كتابة التاريخ، أو مع أطروحات الميتاسرد بوصفها موجّها سرديا يقوم على ابتكار نصوص مجاورة في البنية الإطارية للرواية مثل الوثيقة والمخطوطة، أو تبنّي “المشروع الفوكوي للذاكرة المضادة”، فضلا عن مراجعة أخرى لأطروحات فيصل درّاج، وعبدالله إبراهيم، ومحمد القاضي، وصلاح فضل وسعيد الغانمي ونادر كاظم وغيرهم، والتي تكشف عن مستويات متعددة لقراءة المتخيّل في ما هو تاريخي وما هو سردي، وعبر دراسة الكثيرٍ من التمثّلات التي تبدّت في أعمال روائية معروفة، وعند دراسة علاقة هذه التمثّلات مع المصطلحات والمفاهيم التي تُعنى بإشكالات الدرس النقدي.
لم يتضمن الكتاب فصولا أو محاور محددة، بل اقترح الباحث عناوين الروايات التي اختارها لمباحثه النقدية لتكون هي العناوين الفرعية لكتابه، وقد شكّل الموضوع الأندلسي هاجسا واضحا للباحث، إذ كتب عن روايات “رحلة الغرناطي” للبناني ربيع جابر، و”ثلاثية غرناطة” للمصرية رضوى عاشور، و”البيت الأندلسي” للجزائري واسيني الأعرج، و”مخيم الموراكة” للروائي العراقي جابر خليفة جابر، فضلا عن رواية “ليون الأفريقي” للروائي أمين معلوف.
الهوية والميتاسرد
الاهتمام بالموضوع الأندلسي ينطوي على أهمية التعاطي مع ثيمات الفقد الوجودي والهوياتي، عبر ما هو تاريخي أو مُتخيّل في الأثر العربي، وهو ما يعني استعادة هذه الثيمات، عبر وضعها في سياق إشكالي لمقاربة قضايا نظيرة باتت تُشكّل اليوم، بعد مرحلة الربيع العربي، هاجسا مُعقّدا للذات العربية، وهي تواجه تفجّرات ما هو “مسكوت عنه” لموضوع الهويات الخبيئة في اللاوعي العربي، ومحنة الجماعات العنفية، وخطاب الأمّة المفقود.
كما تضمن الكتاب قراءة مفتوحة لروايات عراقية وعربية يعيش كُتّابها هواجس محنة الهوية، على المستوى الإنساني/ الوجودي، أو على المستوى النفسي عبر ثنائيات الحضور والغياب، أو القمع والاعتراف بالآخر، ومن خلال استعادة الأثر المكاني بحمولته الرمزية أو التاريخية، كما في روايات هاشم غرايبة “أوراق معبد الكتبا”، ورواية أسامة السعيد “أوراق البغدادية” ورواية عبدالرحمن منيف “مدن الملح” وروايتي السيرة عند محمد شكري”الخبز الحافي” و”الشطّار” ورواية إبراهيم الكوني “جنوب غرب طروادة، جنوب شرق قرطاجة” ورواية إنعام كججي “طشاري” وغيرها.
اهتمام الباحث بتقانة الميتاسرد أعطت له مسوغا للكتابة عن عدد من الروايات التي توظف هذه التقانة من منطلق التوصيف الـ”ما بعد حداثي” للكتابة الروائية، والتي تقوم على ما يشبه “التغريب” من خلال وجود النص الداخلي في البنية الإطارية للرواية، بوصفه وثيقة أو رسالة أو حكاية، وهو ما ينعكس على “تحبيك” الرواية، وعلى التصريح بأن ما يُكتَب فيها هو عملية فنية يقوم بها الروائي، ولا أساس لها في الواقع أو التاريخ.
هذه التقانة تعني من جانب آخر استثمارا لمسارات اللعبة السردية كما يقول الباحث، والتي عمد إليها عدد غير قليل من الروائيين العراقيين والعرب مثل أحمد خلف، وعبدالخالق الركابي وخضير فليح الزيدي وسعدي المالح وعباس لطيف وحسن حميد وواسيني الأعرج وغيرهم. حيث يجد الروائي حرية أكبر في اصطناع حيّز سردي لتغذية فاعلية الحكي، ولكشف الكثيرٍ من التحولات التي تخصّ مكونات المبنى السردي للرواية على مستوى الحدث والزمن والمكان، أو على مستوى الشخصية ووظائفها في السياق الروائي. فاعلية هذه التقانة كما يرى الباحث، قد تكون لها في هذا السياق وظيفة سياسية، أو نقدية، فكثيرا ما تكون المخطوطة الافتراضية أو الوثيقة والحكاية مجالا للتعبير عن موقف نقدي له شفراته السياسية والنفسية والأيديولوجية، وله دلالاته في التعبير عن مواجهة أزمات ومحن كبيرة لها علاقة بالفقد التاريخي، أو بمواجهة ماهو سلطوي أو طائفي في اللاوعي الجمعي.