المفكر يوسف الصديق فيلسوف تونسي وباحث في أنثروبولوجيا الأديان، غامر بالدخول إلى مناطق محظورة في عرف من عينوا أنفسهم حراسا على الدين.
لا يزال تصريح المفكر يوسف الصديق الذي أدلى به قبل أسبوعين لقناة تلفزيونية تونسية، يثير جدلا كبيرا تعوّد الرجل على إثارته في كل إصدار أو كل حوار صحافي يجرى معه. الردود التي تفاعلت مع ما نطق به الصديق لم تنح منحاه في التفكير وفي إثارة الإشكاليات الفكرية المحرجة في فضائنا العربي، إنما سارعت إلى استدعاء الآليات المعتادة، وهي هنا التكفير والاتهام بالزندقة أو الجنون، حتى أن الشيخ السلفي البشير بن حسن قال إن “تصريحات يوسف الصديق تدخل في باب الزندقة وهو يتكلم في أمور يجهلها وفي ما لا يعلم”، وطالب بـ”ضرورة قيام مفتي الديار التونسية بالرد على تصريحاته”.
وكثيرة هي العلامات الدالة على ضيق المساحة الفاصلة بين التفكير والتكفير في العالم العربي والإسلامي. التفكير الذي يعني إخضاع كل شيء إلى سلطة العقل وطرح الأسئلة وفتح الأبواب المواربة التي يحرص على ألا تفتح، يؤدي غالبا إلى التكفير الذي يعني معاقبة المفكر طارح الأسئلة المؤجلة أو التي تخلخل السواكن.
مناطق محظورة
الصديق فيلسوف تونسي وباحث في أنثروبولوجيا الأديان، غامر بالدخول إلى مناطق محظورة في عرف من عينوا أنفسهم حراسا على الدين. اشتغل على مبحث القرآن وكانت له مؤخرا شجاعة القول إن “القرآن والمصحف ليسا بواحد وأن المصحف ليس مرادفا للقرآن”، لأن “المصحف هو عمل سياسي بشري، هو عمل اختاره عثمان بن عفان، يقول لنا التراث إنها طرق بدائية، جمع الطوال مع الطوال والقصار مع القصار”، في حين أن “القرآن في معناه العميق هو كل هذا الكون”.
ويشتغل الصديق وفق نسق معرفي متكامل، إذ يكفي الاطلاع على إصداراته من قبيل “هل قرأنا القرآن أم على قلوب أقفالها” أو “الآخر والآخرون في القرآن” لنتبين أن الرجل يبحث عن إعادة استجلاء القرآن، أو يدعو إلى إعادة قراءته وفق منهج يسبر أغواره ومعانيه وقيمه، ولا يكتفي من النص بالحفظ والتلقين.
ولد الصديق في العام 1943 في منطقة توزر بجنوب تونس، في بيئة اجتماعية وفكرية تتصالح فيها المنطلقات الفكرية والدينية بهدوء كبير، وهي المنطقة التي ولد فيها أبوالقاسم الشابي والخضر حسين وغيرهما من الأدباء والمفكرين. حفظ القرآن والشعر الجاهلي منذ طفولته، وترسخت علاقته بالنص القرآني باطلاعه على نصوص فكرية تأسيسية من قبيل نصوص المعتزلة والزمخشري المعتزلي وموطأ الإمام مالك ورسائل ابن سينا ومؤلفات طه حسين وكتابات الطاهر ابن عاشور صاحب التحرير والتنوير، والفاضل ابن عاشور وآخرين.
النأي بالإسلام عن الفقهاء
تمكّن الصديق من المتن القرآني وتوفره على كل أدوات فهمه والتعمق فيه، أتاحا له فهما أكثر عمقا وجرأة مما درجت الثقافة العربية الإسلامية على تقديمه على النص القرآني والإسلام عموما. نادى الصديق في كل كتبه ومؤلفاته ومقالاته وحتى حواراته الصحافية إلى ضرورة إعادة قراءة القرآن بوصفه نصا عميقا من الناحية القيمية. هنا وجب عليه التمييز بين القرآن من منطلق أن “الله يلهم المعاني”، ولا نكتفي بكونه كتابا يقول عنه ابن كثير “كنا نقرأ سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة، حتى جاء عثمان فأراد أن يجعل سورة باسم قريش ففرقهما”.
ويمثل الصديق امتدادا فكريا للمعتزلة ولابن رشد وابن سينا ومحيي الدين ابن عربي وطه حسين ونصر حامد أبوزيد ومحمود محمد طه وغيرهم كثير، ممن دعوا إلى تقييم التراث العربي الإسلامي المكتظّ بأثر الفقهاء أكثر من اكتظاظه بقيم الدين الإسلامي الذي يدعون الذود عنه.
دعوة الصديق إلى وجوب التشبث بالقرآن والنأي بالدين الإسلامي عن سيطرة الفقهاء ورجال الدين الذين طبعوه بطابع متشدد ومغال، ليست دعوة جديدة أو يتيمة أو من ابتكارات الصديق، فهي دعوة لطالما وسمت التاريخ العربي الإسلامي، قوامها الانتصار للقرآن واعتبار الفقه والشريعة جهدا بشريا قابلا للنقد. ومن تراث المعتزلة في البصرة في القرن الثاني للهجرة، مرورا بابن رشد وابن المقفع، وصولا إلى مفكرين معاصرين من قبيل طه حسين ونصر حامد أبوزيد ومحمد شحرور ومالك ابن نبي، كانت الفكرة تبزغ دائما للقول إن لا سلطان على العقل، وكان الصراع دائما ضد قوى النقل والتلقين التي تلجأ على الدوام إلى سلاح التكفير. معركة العقل والنقل قائمة وستظل، ومعركة يوسف الصديق ليست سوى فصل من الحرب الطويلة، من أجل استرجاع الإسلام ممن يصادرونه بأفهامهم.
تفكيك الملتبس
قضية المصحف والقرآن التي أثارها الصديق وردت أيضا في كتاب المفكر المغربي سعيد ناشيد “الحداثة والقرآن” الذي شدد في مقدمة كتابه على أن “القرآن الكريم يعبر عن ثلاث قضايا متفاوتة، لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نستمرّ في الخلط بينها: أولا، قضية الوحي الإلهي. ثانيا، قضية القرآن المحمّدي. وثالثا، قضية المصحف العثماني”.
ويدلّ القرآن كما سبق القول على ثلاث ظواهر متباينة لا يجوز الخلط بينها: أولا؛ الوحي الرباني، وهو يحيل إلى الصور الوحيانية التي استشعرها الرّسول وتمثّلها، إما عبر قوّته التخييلية كما يقول كلٌّ من الفارابي وابن عربي وسبينوزا عن تجارب النبوّة، وإما عبر القلب والوجدان كما يشرح أحمد القبانجي. وفي الأخير فإن كلام القرآن هو كلام النبي المؤيَّد بالإرادة الإلهية كما يوضح محمد مجتهد الشبستري.
ثانيا؛ القرآن المحمّدي، وهو ثمرة جهد الرّسول في تأويل الوحي وترجمة الإشارات الإلهية إلى عبارات بشرية انطلاقا من وعيه وثقافته ومزاجه وشخصيته وقدراته التّأويلية. وقد استغرق هذا الجهد ما يقارب رُبع قرن من الزّمن. والمؤكد أن هذا الفارق بين القرآن المحمدي والوحي الرباني قد سبق إلى التعبير عنه المصلحان الدينيان الإيرانيان عبدالكريم شروس والشيخ محمد مجتهد الشبستري.
ثالثا؛ المصحف العثماني، وهو ثمرة جهد المسلمين في تحويل القرآن المحمدي- خلال مرحلة أولى- من آيات شفهية متناثرة إلى مصاحف متعددة، ثمّ- خلال مرحلة ثانية- من مصاحف متعددة إلى مصحف واحد وجامع، وفق نمط معيّن من التأليف والتبويب والتّرتيب، وبحسب قواعد محدّدة في اللغة والكتابة والخط. وقد استغرق هذا الجهد زهاء نصف قرن من الزمن على الأقل. وللتذكير، فقد تمّت مفهمة هذا الجهد على يد جورج طرابيشي في حديثه عن “مَصْحَفة القرآن”.
واضح أن جهد الصديق لبيان الفرق بين القرآن والمصحف هو ذات الجهد الذي بذله ناشيد، كما غيرهما من المفكرين الذي خيروا عسر التفكير على استسهال التقليد، فقرروا المضي بالفكرة إلى منتهاها للخروج بفكرة مركزية خطيرة مفادها أن الإسلام الذي يصاغُ اليوم ويقدمُ ويروّج في الخطب والمنابر والفضائيات، جله من تدبير الفقهاء، ولا شك أن تمييز القرآن بوصفه قيما ومعاني، عن القرآن بوصفه كتابا تم جمعه وتدوينه بقرار سياسي من عثمان ابن عفان، هو منطلق تصويب العلاقة مع الإسلام برمته، والنأي به عن التشدد الذي يلتبس بالاختفاء وراء النص الديني.
حان وقت ثورة الفكر
يقول الصديق “الوقت حان لأن نعود لما جاءت به المعتزلة كثورة وما حاول طه حسين أن يحييه في القرن الماضي، وهو أن الله يلهم المعاني، وهذا ما حاول طه حسين أن يقوله فزلزلت عليه الأرض وأجبر على أن يتنحى من السياسة ومن وزارة التربية” ويضيف “هذا يجب أن يكون في صلب الثورة المعرفية التي لا بد لنا أن نقوم بها، لأن المصحف هو عمل سياسي بشري، هو عمل اختاره عثمان بن عفان، يقول لنا التراث إنها طرق بدائية، جمع الطوال مع الطوال والقصار مع القصار، بينما يقول آخرون لا، إن جبريل عليه السلام هو الذي رتبه”.
المواقف المتطرفة ضد أفكار الصديق نابعة في جلها من شيوخ ورجال دين، أغلبهم لم يقرأوا كتبه بل اكتفوا برصد تصريحاته الواردة في وسائل الإعلام، وهي بلا شك لا تسمح باعتبار حيزها المحدود للرجل بالدفاع عن أفكاره أو على الأقل بطرحها للتداول بين الناس. ومن ذلك ما قاله الشيخ البشير بن حسن كما أسلفنا، والذي زاد في مقطع فيديو نشره مؤخرا بالقول “هذا الذي يوصف بالمبدع وينعت بالدكتور تطاول أخيرا وليس آخرا على كتاب الله، المسمى يوسف الصديق وليس بالصديق فقد تعنت وتعسف في الحديث عن القرآن بل شبهه بشجرة المشمش أو اللوز، وقال إن القرآن ليس صالحا لكل زمان ومكان”، وأضاف بن حسن “هذه دعوة خطيرة وجب الرد عليها لأنها زندقة وظلم واعتداء على كتاب الله”.
بذل الصديق جهدا فكريا دؤوبا يروم إعادة الاعتبار للقرآن ويتقصد تخليصه من الأفهام المتسرعة والمشددة والسياسية في آن. جهد الصديق الفكري الذي يلتقي فيه مع العديد من المفكرين الذين آثروا التفكير خارج الصندوق، قوبلَ بهرولة نحو التكفير والاتهام بالزندقة. الجهد الدؤوب الذي يهدف إلى تحقيق غايات فكرية وحضارية ودينية خطيرة، يواجه باستسهال فكري يقوم على الرفض والمعاقبة.
وهذا تعبير عن أزمة عميقة تشق الفكر العربي الإسلامي، قوامها أنه فكر يأبى التجديد وتحريك الراكد، لا فقط لموانع فكرية أو منهجية، وإنما أيضا لأن التجديد والنأي بالدين عن التوظيف السياسي سيضران بمصالح كل المستفيدين من ذلك، وفي القائمة كل التيارات الإسلامية، سواء المتشددة أو تلك التي تدعي الاعتدال.
الصديق فيلسوف اختار أن يقرأ القرآن بالعمق والإحاطة اللازمين لتبين القيم التي يحتويها، وقرر تبعا لذلك أننا “لم نقرأ القرآن” ثم عزز ذلك بكتاب آخر “الآخر والآخرون في القرآن”، وكأنه بذلك يدرس أثر فهمنا للقرآن على ذواتنا وعلى نظرتنا للآخر.
وينضم يوسف الصديق إلى قافلة طويلة من الفلاسفة والمفكرين الذين همشتهم الآلة الدوغمائية المهيمنة على الأفهام الدينية، على أن الحملة التكفيرية عليه جوبهت برفض كبير من قبل مثقفي تونس وحتى من تونس الرسمية فاستقبله الجمعة الماضية رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، وأعلن خلال لقائه به تمسّكه بضمان الحريّات المكفولة في الدستور كحرية الضمير والمعتقد واستنكاره لدعوات التكفير والتحريض التي استهدفته.
أما الجمعية التونسية للدفاع عن القيم الجامعية فقالت في بيان لها إن تكفير المفكّرين ليس فقط تعدّيا صارخا على الحرية الأكاديمية وحرية التفكير وحرية الضمير وحرية التعبير عن الرأي، المكفولة كلّها من قبل الدستور، بل هو في نفس الوقت ضرب من العنف الموجّه ضدّهم باعتباره تحريضا مباشرا أو غير مباشر على الإساءة إليهم إلى حدّ اغتيالهم، وطالبت الجمعية بتحريك قضايا ضدّ التوجّه التكفيري الصريح الذي تعرض له الصدّيق.