قبل سنوات، أثناء تجولي في إحدى أكبر مكتبات بيع الكتب والمجلات والدوريات "بارنز آند نوبل" (Barnes & Noble) في ضواحي العاصمة الأميركية، وقعت عيناي على غلاف مجلة عسكرية تاريخية متخصصة (فصلية التاريخ العسكري) تحمل غلافا عنوانه الرئيس "محمد: النبي المحارب" (Muhammad: The Warrior Prophet).
أثار العنوان لدي فضولا، وتناولت المجلة، ولا أخفي أنه أثار داخلي مزيجا من المشاعر المتناقضة بين الدهشة والغضب الممزوج بالفضول. قررت شراء الدورية المتخصصة التي يقرؤها كبار رجال القوات المسلحة الأميركية ممن لهم اهتمامات بالشؤون التاريخية وانعكاساتها على الشؤون العسكرية المعاصرة، ويكتب بها نخبة المؤرخين العسكريين الأميركيين.
نجح الرسول -صلى الله عليه وسلم- في دمج التشكيلات العربية المقاتلة التي انقسمت إلى فئتين: فئة جنود المشاة المكونة من رجال فقراء من سكان القرى الصغيرة والواحات والتجمعات خارج المدن الرئيسة، وفئة الفرسان المكونة من رجال القبائل ممن لهم مهارات قتالية عالية يتوارثونها من الآباء، وكان بين الفريقين شكوك كثيرة وحقد كبير، إلا أن الرسول أكسب الجيش الجديد هوية جديدة ونظاما عسكريا صارما.
كاتب الدراسة المؤرخ العسكري "ريتشارد غابريل" الذي عمل سابقا في جهات حكومية مختلفة وخدم في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وله 41 كتابا.
ويرى الكاتب أنه من دون عبقرية الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- ورؤيته العسكرية الفذة ما كان ليبقى الإسلام ويصمد وينتشر بعد وفاته. وتذكر الدراسة أيضا أنه على الرغم من توفر كثير من الدراسات العلمية عن حياة الرسول وإنجازاته، فلا توجد دراسة تنظر إلى الرسول على أنه أول جنرال عسكري في الإسلام وأول متمرد ناجح (First Insurgent)، على حد التعبير الحرفي للدراسة. وترى الدراسة أنه لولا نجاح الرسول محمد بوصفه قائدا عسكريا ما كان للمسلمين أن يغزوا الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية، بعد وفاته. وتقول الدراسة إن النظر إلى الرسول محمد كقائد عسكري هو شيء جديد على كثيرين، فقد كان عسكريا من الطراز الأول؛ قام في عقد واحد من الزمن بقيادة 8 معارك عسكرية، وشنّ 18 غارة، وخطط لـ38 عملية عسكرية محدودة.
تذكر الدراسة أن الرسول أصيب مرتين أثناء مشاركته في المعارك، ولم يكن الرسول محمد قائدا عسكريا محنكا وحسب، بل ترى الدراسة أنه كان "منظّرا عسكريا" و"مفكرا إستراتيجيا" و"مقاتلا ثوريا". وتصف الدراسة الرسول محمد بأول من أوجد "عمليات التمرد" (Insurgency Warfare) وحروب العصابات (Guerrilla Warfare)، وأنه "أول من مارس هذه الإستراتيجيات وطبّقها".
وتقول الدراسة إن الرسول استخدم كل ما كان متاحا من وسائل من أجل تحقيق أهدافه السياسية، فاستخدم في هذا الإطار وسائل عسكرية وغير عسكرية (مثل بناء التحالفات، والاغتيالات السياسية، والعفو، والإغراء الديني، والتضحية أحيانا بأهداف قصيرة المدى من أجل تحقيق أهداف طويلة المدى)، على حد تعبيرها.
وتشيد الدراسة بـ"أجهزة المخابرات" التي أسسها الرسول وأدارها، وتفوقت على نظيراتها عند الفرس والروم، أقوى إمبراطوريتين آنذاك. وترى الدراسة أن إستراتيجيات الرسول يمكن وصفها بأنها جمع بين نظريات كارل فون كلاوزفيتس ونيقولا ميكيافيلي، حيث استخدم الرسول -حسب الدراسة- دائما القوة من أجل تحقيق مكاسب سياسية. وتعزو الدراسة نجاح الرسول في إحداث تغيير ثوري في العقيدة العسكرية إلى ما كان معروفا وسائدا في جزيرة العرب، لإيمانه بأنه مرسل من عند الله. وتشير إلى أنه بفضل ذلك نجح في إيجاد أول جيش نظامي عربي قائم على الإيمان بنظام متكامل للعقيدة الأيديولوجية "الدين الإسلامي". مفاهيم مثل "الحرب المقدسة" و"الجهاد" و"الشهادة" من أجل الدين قدمها أولا واستخدمها الرسول محمد قبل أي شخص آخر، ومن المسلمين اقتبس العالم المسيحي مفهوم الحرب المقدسة، وباسمها شنّ الحروب الصليبية فيما بعد ضد المسلمين أنفسهم، وفقا للدراسة.
وترى الدراسة أن الرسول محمد، على عكس القادة العسكريين التقليديين، لم يسع لهزيمة جيوش أعدائه، بل سعى بنجاح لتشكيل جيش عربي موحد تحت إمرته شخصيا من هذه الجيوش جميعها. ورغم أن الدراسة تدّعي أن الرسول محمد بدأ حركة تمرده العسكرية بعدد قليل من المقاتلين تستخدم فقط إستراتيجية الكر والفر (hit and run)، فإن هذه الأعداد القليلة بلغت ما يقرب من 10 آلاف من المقاتلين بعد عقد من الزمان عند فتح مكة، كما تذكر الدراسة.
وتذهب الدراسة إلى أن الرسول أدرك أن حركة التمرد تتطلب لنجاحها قوات مسلحة قوية، وشعبا يدعم جيشه، فكان أول قائد في التاريخ يتبنّى عقيدة سياسة خلاصتها "حرب الشعب.. جيش الشعب" (People’s War ، People’s Army)، وذلك قبل تبنّي العقيدة نفسها من قبل الجنرال الفيتنامي "فون جوان جياب" في حرب فيتنام. وترى الدراسة أن الرسول نجح في أن يقنع أتباعه أن الله طالب كل المسلمين بتسخير كل مواردهم من أجل العقيدة، ومن أجل ما يطلبه الرسول نفسه بوصفه مرسلا من السماء.
ونجح الرسول في دمج التشكيلات العربية المقاتلة التي انقسمت إلى فئتين: فئة جنود المشاة المكونة من رجال فقراء من سكان القرى الصغيرة والواحات والتجمعات خارج المدن الرئيسية، وفئة الفرسان المكونة من رجال القبائل ممن لهم مهارات قتالية عالية يتوارثونها من الآباء، وكان بين الفريقين شكوك كثيرة وحقد كبير، إلا أن الرسول أكسب الجيش الجديد هوية جديدة ونظاما عسكريا صارما، حسب الدراسة.
وترى الدراسة أن المقاتلين العرب قبل الإسلام كانوا فقط يهتمون بمصالحهم المباشرة والمحدودة، فقد كان الهدف من القتال الحصول على غنائم مادية، لذا غاب عن العرب مفهوم الجيوش النظامية.
وكانت الحروب في الجزيرة العربية صغيرة محدودة متكررة، ولم يكن هناك ضابط أو رابط لتوقيت المعارك، أو موعد لتجمع المقاتلين، فقد كان ينضم المقاتل وقد يغادر أرض المعركة قبل أن تنتهي إذا حظي بغنائم ترضيه. ومن أجل إصلاح هذه المعضلات، ترى الدراسة أن الرسول نجح في بناء منظومة عسكرية للقيادة والسيطرة للمرة الأولى في التاريخ العربي.
وفى النهاية يشير الكاتب إلى أن الرسول في طفولته وشبابه توارث التدريب العسكري الذي كان ينتقل من الآباء والعائلات إلى أبنائهم. وللتغلب على ما وصفه الكاتب بالنقص المهاري، نجح الرسول في إحاطة نفسه بمجموعة من المحاربين المحنكين الذين كان دائما يستمع لنصائحهم العسكرية، على حد قوله.
محمد المِنشاوي
كاتب ومحلل سياسي مقيم بواشنطن ومتخصص في الشؤون الأميركية