مع استمرار النقاش حول تحديث المناهج التعليمية في تونس، تبرز مسألة تدريس مادة المسرح في المدارس الإعدادية كإحدى القضايا المثيرة للجدل. هل المسرح هو حقًا ضرورة تعليمية تساهم في بناء جيل واعٍ وقادر على التفكير النقدي؟ أم أنه مجرد نشاط ترفيهي لا يرقى إلى مستوى المواد الأساسية الأخرى؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب تحليلاً أعمق للأدوار التي يمكن أن يلعبها المسرح في النظام التعليمي التونسي وتأثيره على التلاميذ.
مقالات ذات صلة:
المسرح التونسي يتألق في مهرجان ظفار الدولي للمسرح بجوائز مرموقة
مشاركة قوية للأعمال المسرحية التونسية في مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي
مسرحية "شكون" لمحمد شوقي خوجة تتوج بجائزة أفضل أداء نسائي في مهرجان الإسكندرية المسرحي
المسرح كوسيلة لبناء الشخصية
تدريس المسرح في المدارس يتجاوز كونه مجرد أداء مسرحي أو ترفيه. إنه عملية تربوية متكاملة تساعد على بناء شخصية الطفل في مرحلة حساسة من حياته. في سنوات الإعدادية، يمر الطالب بمرحلة تكوين هوية ذاتية ومجتمعية. هنا يأتي دور المسرح ليكون وسيلة فريدة لتطوير مجموعة من المهارات الشخصية والاجتماعية. من خلال تمثيل الأدوار المختلفة، يتعلم الطالب كيف يضع نفسه مكان الآخرين، مما يعزز قدرته على التعاطف وفهم مشاعر من حوله.
كما يعمل المسرح على تطوير مهارات التعبير اللفظي وغير اللفظي. فالمسرح ليس مجرد كلمات تقال على الركح، بل هو لغة كاملة من الجسد، من الوقوف والحركة إلى كيفية التعامل مع الفراغ والتفاعل مع الجمهور. هذه المهارات تعزز ثقة الطالب بنفسه وتمنحه أدوات للتواصل بشكل أكثر فعالية مع محيطه.
تعزيز التفكير النقدي والإبداع
يعتبر المسرح من بين الأدوات القليلة في التعليم التي تشجع الطلاب على التفكير خارج الصندوق. تحليل النصوص المسرحية وفهم دوافع الشخصيات وتفسير السياقات الثقافية والتاريخية وراء النصوص، كلها تمارين تساهم في تطوير قدرة الطالب على التفكير النقدي. كما أن بناء الشخصيات وتجسيدها يتطلب من الطالب الإبداع والابتكار، مما يساعد على تنمية مهارات التفكير الابتكاري التي يحتاجها في حياته المستقبلية.
المسرح بين الترفيه والتربية
رغم هذا الطرح العميق لدور المسرح في التعليم، لا تزال هناك وجهة نظر معارضة تعتبر أن المسرح يظل نشاطًا ترفيهيًا، ولا يجب أن يؤخذ بجدية كتدريس مواد مثل الرياضيات أو العلوم. يعتقد البعض أن النظام التعليمي يجب أن يركز على المواد الأكاديمية "الجادة" التي تساهم مباشرة في بناء مهارات يحتاجها سوق العمل، فيما يُنظر إلى المسرح باعتباره نشاطًا ثانويًا يمكن ممارسته في الأوقات الحرة.
إلا أن هذا الرأي يغفل عن حقيقة أن المسرح يمكن أن يكون وسيلة فعالة في التعليم ليس فقط من أجل الترفيه، بل لتقديم مفاهيم تعليمية بشكل غير تقليدي. كما أن النشاط المسرحي، على عكس ما يعتقده البعض، يمكن أن يعزز الأداء الأكاديمي للتلاميذ. فالتفاعل مع النصوص المسرحية يشجع على قراءة وفهم النصوص المعقدة، ويعزز القدرة على التحليل والتفسير.
في ظل التحديات التكنولوجية
في عصر التكنولوجيا الرقمية، حيث يقضي الأطفال والمراهقون أوقاتًا طويلة أمام الشاشات، تأتي أهمية المسرح كوسيلة لتعزيز التفاعل البشري الحقيقي. فالمدارس اليوم تواجه تحديات في كيفية استعادة اهتمام الطلاب وجعلهم يتفاعلون مع بعضهم البعض بدلاً من التفاعل مع الأجهزة فقط. هنا يمكن أن يكون للمسرح دور حيوي في إعادة توجيه انتباه الطلاب إلى التواصل الواقعي وتعزيز مهاراتهم الاجتماعية، والتي تعاني من الضعف في ظل هيمنة التكنولوجيا.
ضرورة أم ترفيه؟
بالنظر إلى كل ما سبق، يمكن القول إن تدريس المسرح في المدارس الإعدادية ليس ترفًا، بل هو حاجة تربوية ملحة. إنه يوفر للأطفال فرصة للتعبير عن أنفسهم في بيئة آمنة، يساعدهم على تطوير مهارات التفكير النقدي والإبداعي، ويعزز من تفاعلهم الاجتماعي. إضافة إلى ذلك، يتيح المسرح للطلاب فرصة استكشاف العالم من خلال عيون الآخرين، مما يعزز لديهم قيم التسامح وفهم الثقافات المختلفة.
في المقابل، يبقى التحدي في كيفية إدماج المسرح في المنهج التعليمي بطريقة تتناسب مع المتطلبات الأكاديمية الأخرى. هل يمكن للمسرح أن يصبح مادة أساسية في المناهج؟ وكيف يمكن توظيفه لتقديم مفاهيم تربوية بطرق مبتكرة وجذابة؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تستوجب النظر في التجارب العالمية الناجحة، مثل تلك الموجودة في دول أوروبا التي جعلت من المسرح جزءًا لا يتجزأ من العملية التعليمية.
إدراج مادة المسرح في المدارس الإعدادية في تونس ليس ترفًا، بل هو استثمار في المستقبل. إنها وسيلة فعالة لتطوير مهارات الطلاب الشخصية والاجتماعية والأكاديمية. في ظل التغيرات السريعة التي يشهدها العالم اليوم، يصبح المسرح أداة تعليمية ضرورية لمواجهة التحديات الجديدة وبناء جيل قادر على التفكير الإبداعي والنقدي.