في إطار الدورة الخامسة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية، عرضت قاعة الريو يوم الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 المسرحية العراقية "بيت أبو عبد الله"، التي تم إدراجها ضمن المسابقة الرسمية. المسرحية من إنتاج دائرة السينما والمسرح والفرقة الوطنية للتمثيل، تأليف وإخراج أنس عبد الصمد، وبطولة محمد عمر، وثريا بوغانمي، وأنس عبد الصمد، وماجد درندش.
مقالات ذات صلة:
أكامورا أو كل شيء عن أمي: دراما إنسانية عابرة للحدود على خشبة أيام قرطاج المسرحية
أيام قرطاج المسرحية في دورتها الـ25: فن مقاومة الظلم في زمن الأزمات
"أحلام سلام": مغامرة مسرحية في أعماق التاريخ
فضاء مسرحي مشحون بالرمزية
على خشبة المسرح، يبرز مشهد بسيط لكنه مليء بالرمزية: طاولة مع ثلاثة صحون، كتب مكدّسة تحت الطاولة وأخرى مبعثرة في الزوايا، آلة غسيل ومرحاض في الركن البعيد. الجدران سوداء، ورجل مقيّد الحركة في إطار يبدو كصورة جامدة، بينما تتحرّك امرأة بتوتر في الفضاء بين الضوء والعتمة. يلتقي الرجل والمرأة على طاولة الطعام دون تواصل، بينما يدخل رجل آخر إلى المرحاض ويقضي حاجته دون أن يعير الزوجين أي اهتمام. هذا البيت، الذي يُفترض أن يكون ملاذًا آمنًا، يصبح مكانًا مستباحًا.
صراع داخلي وآلام إنسانية
تبدأ المسرحية بمشاهد من العنف والتوتر المتصاعد، حيث تتداخل أصوات من الخارج مع طلقات الرصاص والغوغاء، بينما تتحرّك الجدران السوداء وتُسجن الشخصيات داخل فضاء ضيق خانق. هذه الرمزية تشير إلى أن البيت أصبح صورة مصغرة للوطن بأزماته المتعددة. في هذا الفضاء المشحون، تتبدل الدلالات تدريجيًا من حياة أسرة إلى معاناة وطن كامل، حيث تتنازع الشخصيات في محاولات يائسة للنجاة.
الجسد كأداة تعبيرية
في "بيت أبو عبد الله"، لا يعتمد العرض على النص المنطوق، بل على لغة الجسد التي تمثل جوهر المسرحية. يتحرك الجسد ليعبّر عن الأزمات الإنسانية والمعنوية في بيئة مشحونة بالضغوط السياسية والاجتماعية. من خلال حركات عشوائية ومتهورة، يتم تحطيم الصحون وتقليب الطاولة وتمزيق الكتب، مما يرمز إلى محو الأفكار والأيديولوجيات القديمة. هذه الفوضى الجسدية تعكس الحياة تحت وطأة الأنظمة القمعية التي تفتقر إلى الحرية.
الميتا مسرح و"اللغة الكونية"
اعتمد أنس عبد الصمد في إخراجه على أسلوب "الميتا مسرح"، حيث يتجسد المسرح داخل المسرح، ولا يختفي وراء الشخصيات التقليدية بل يظهر بشكل مباشر ليعبر عن آراء المؤلف ومواقفه. من خلال هذا الأسلوب، تحاول المسرحية تقديم صورة أكثر واقعية وملموسة للأزمة العراقية والعالمية.
رسالة سياسية وإنسانية
من خلال تأكيد الحركة الجسدية المستمرة والضغط النفسي على الشخصيات، يُعبّر العمل عن المعاناة الجسدية والعاطفية التي يمر بها الأفراد داخل وطن مكلوم بالأزمات المستمرة. تتحول الجدران السوداء إلى مرآة للوطن الممزق، لتستعرض مشهدًا قاسيًا عن الصراع بين الفرد والسلطة. وعندما يتم عرض زحف الجرذان على الشاشة في الخلفية، يكون ذلك بمثابة تجسيد لفوضى وانحلال المجتمع في ظل الفساد والعنف.
"بيت أبو عبد الله" ليس مجرد مسرحية تتناول معاناة شخصية، بل هي بيان مسرحي شامل عن معاناة الشعوب تحت وطأة الأنظمة الاستبدادية. بفضل الأداء الجسدي المدروس بدقة والإخراج المتقن، استطاعت المسرحية أن تنقل إلى الجمهور رسالة مؤثرة عن الصراع الداخلي والخارجي في وطن تمزقه الحروب والتسلط.