عند الحديث عن إلغاء العبوديّة، تعتبر تونس رائدة من الناحية الزمنيّة، حيث ألغت قبل 171 عامًا الرّق بشكل كليّ على مستوى التشريعات والقوانين، فيما استمرت الظاهرة لعقود في بقاع كثيرة من العالم، ولمدة تجاوز قرنًا من الزمن في بعض الأقطار العربيّة والإسلاميّة الأخرى. نعود في هذا المقال على بعض أهمّ ظروف وأسباب إلغاء العبوديّة في تونس منصف القرن التاسع عشر.
عند الحديث عن إلغاء العبوديّة، تعتبر تونس رائدة من الناحية الزمنيّة، حيث ألغت قبل 171 عامًا الرّق بشكل كليّ على مستوى التشريعات
أصناف العبيد في تاريخ تونس الحديث:
تواجد في تونس صنفان من العبيد في الفترة السابقة للإلغاء. حيث وجدت فئة عرفت بالرقيق الأبيض، وتشمل في معظمها نساء وأطفال بيض البشرة وقع اختطافهم عن طريق القرصنة البحريّة، التي كانت إحدى المقوّمات الأساسية للاقتصاد التونسيّ حينها، من سفن أو جزر في البحر المتوسّط. وكان عدد من أولئك النساء والأطفال يباع في سوق العبيد، ويفتدى قسم ثان منهم، فيما يلحق قسم ثالث للعمل بمؤسسة الحكم. وقد ارتقى عدد من الملحقين بالقصر إلى رتب عالية في الدولة كما أنجب عدد من البايات (الملوك) أطفالًا من جواري مختطفات – فوالدة أحمد باي، (والباي هو الحاكم العثماني لتونس) الذي ألغى العبوديّة، جارية سبيت مع والدتها وأختها من جزيرة سنبيرة (Saint-Pierre) وتربت بمنزل جدّته.
أما الفئة الثانية، فهي فئة العبيد السود، وهي الفئة الأساسيّة المعنيّة بإلغاء الرقّ. ويعود حضورها في تونس، كما يشير المؤرخ محمد نجيب بوطالب في بحثه "الأوضاع الاجتماعيّة للعبيد السود في البلاد التونسية في النصف الثاني من القرن 19"، إلى العهد الحفصيّ في القرن الخامس عشر. وكما هو معلوم، لا تشمل هذه الفئة كلّ السكان السود، حيث يوجد رعايا سود البشرة من "الدرجة الأولى"، وهم عرب أساسًا، بل تتكوّن من عبيد جيء بهم من أماكن متفرقة من القارة الأفريقيّة، يرحّل الجزء الأكبر منهم عبر طرق التجارة إلى خارج البلاد، ويباع جزء آخر فيها. أما بالنسبة إلى أعدادهم، فيستنتج بوطالب، بناء على دراسات وإحصاءات سابقة، أنّ عددهم كان في حدود العشرة آلاف على امتداد القرن التاسع عشر. وانقسمت استخدامات فئة العبيد السود بين الأعمال الزراعيّة والأعمال المنزلية في دور علية القوم.
مسار إلغاء العبوديّة:
تقلص عدد العبيد بيض البشرة بشكل شديد بتراجع القرصنة البحريّة واشتداد عود القوى الأوروبيّة إلى أن اختفت بشكل شبه كامل بداية القرن التاسع عشر. أما بالنسبة للعبيد سود البشرة، يروي لنا أحمد ابن أبي الضياف، وهو من كبار الموظفين في دولة البايات، والمؤرّخ الرسميّ لها، مسار الإلغاء وبعض دوافعه في كتابه "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان".
يتبيّن من تأريخ ابن أبي الضياف أنّ الإلغاء كان تدريجيًّا، حيث يقول إنّ الباي "لم يأمر بذلك دفعة واحدة بل تدرّج إلى الوصول إليه". لذلك وفي مرحلة أولى قام الباي "في رجب من سنة سبع وخمسين بمنع بيع الرّقيق في السوق كالبهائم. وأسقط المكس الموظّف على ذلك. ويسمى ملتزمه بقائد البركة. ومقداره ينيف عن الثلاثين ألف ريال في السّنة. وهدّم الدكاكين الموضوعة لجلوسهم وبقعة القائد وتسمى القفص وسكت عن بيعهم في غير السوق. ثم منع خروج المماليك من العمالة للتجارة فيهم وكتب لذلك بمراسي المملكة". نفهم من هذا الكلام أنّ أحمد باي اتخذ قراره في شهر سبتمبر/أيلول عام 1841 بمنع بيع العبيد في السوق والمتاجرة بهم دوليًا لكنه مع ذلك سكت عن بيعهم خارج السوق. وألحق الملك قراره الأول بقرار آخر أواخر العام 1842، ومفاده "أنّ المولود في المملكة التونسيّة حرّ لا يباع ولا يشترى". أي أنّ الخطوة الثانية للباي هي إحداث قطيعة جيليّة مع الظاهرة، حيث سيولد أبناء العبيد الموجودين أحرارًا، وإذا ربطنا ذلك بالقرار الأوّل الذي يمنع المتاجرة بهم، نستنتج أنّ العبودية شهدت ببلوغ ذلك الوقت آخر أجيالها. ثمّ جاء الأمر الثالث الحاسم في 23 جانفي/كانون الثاني عام 1946 حيث "حجّر ملكهم وأمرني في ذلك بالكتابة إلى المجلس الشرعيّ". وبذلك وضع الملك حدّا للعبوديّة وأمر ابن أبي الضياف بالكتابة إلى أعضاء المجلس الشرعي من المشايخ لإعلامهم بالقرار وحثّهم على تطبيقه وإقناع الناس به. ولمزيد إحكام تطبيق القرار، عيّن الباي عدولًا قانونيّين بعدد من الزوايا الصوفيّة لكتابة حجج في العتق لكلّ من يستجير بهم من العبيد.
تقلص عدد العبيد بيض البشرة في تونس بتراجع القرصنة البحرية واشتداد عود القوى الأوروبية إلى أن اختفت بداية القرن التاسع عشر
تختلط دوافع السلطة التونسيّة لإلغاء الرقّ بين ما هو ذاتيّ مرتبط بشخصيّة أحمد باي وما هو دينيّ إسلاميّ وما هو سياسيّ. حيث يقول أحمد ابن أبي الضياف في معرض تفسيره للدوافع إنّ "هذا الباي في ظاهر حاله ميل بطبعه إلى الحضارة التي أساسها وملاك أمرها الحريّة". أيّ أن القرار مطبوع في جزء منه بطابع شخصيّ مرتبط بنظرة الملك لما يجب أن تكون عليه الأمور.
ويظهر، من مجمل تأريخ ابن أبي الضياف لفترة حكمه، أنّه على عكس كثير من الملوك السابقين الذين ذمّهم نفس المؤرخ، كان يحمل أفكارًا إصلاحيّة منها الحريّة والمساواة النسبيّة بين رعاياه، حيث يقول ابن أبي الضياف في معرض رثائه إنّه "يرى كلّ واحد من أبناء المملكة أهلا لكل خطّة وموضعًا للتّقريب. ولا يتعصّب لصنف دون آخر لما في ذلك من انحلال العصبيّة وقطع سلكها. ويقول: أصل الملك محبّة الرّعية. ولا محبّة إذا وقع الالتفات لصنف دون بقيّة النّاس". ويقول في مدح سياسته إنّه "فعل ما فعل في المساغب مع سكان الحاضرة من إعطاء القمح لفقرائهم مسوّيًا في ذلك بين المسلمين واليهود والنصاري من رعايا الدّول". ويستخدم أحمد باي في وصف العبيد السود في رسالته إلى المجلس الشرعيّ عبارات متعاطفة معهم، حيث يقول مثلًا: "فاقتضى نظرنا والحالة هذه رفقًا بأولئك المساكين في دنياهم"، ويقول في رسالة إلى قنصل إنجلترا بمالطا، أوردها محمد نجيب بوطالب في بحثه المذكور سابقًا، إنّه "ما زالت الشفقة على العبيد المستضعفين تحرك عنايتنا". كما أمر الباي عند وفاة والده، عندما كان وليًّا للعهد، أن لا ترفع صحف العتق على القصب وراء جنازته حيث اعتبر أنّ "العتق لله سبحانه، لا للمباهاة بكثرة المعتوقين".
لكن إلى جانب الدافع الشخصيّ يوجد أيضًا دافع سياسيّ. حيث يشير ابن أبي الضياف أنّ الباي "قدّر أنّ ذلك ربما يقنع الطالب للتّنظيمات الخيريّة التي من أصولها ذلك". ويحيل ذكر التنظيمات الخيريّة إلى الدولة العثمانيّة التي كانت تونس وقتها في تبعيّة صوريّة لها. حيث نقرأ في موضع آخر من كتاب الإتحاف أنّه ورد من الدولة العليّة في شهر محرّم عام 1841 "فرمان التنظيمات الخيريّة المبنيّ على أساس العدل والحريّة". وإن لم يدع الفرمان إلى إلغاء الرّق، حيث استمرّت الظاهرة في الدولة العثمانيّة إلى فترة متأخرة، إلاّ أنّه دعا إلى العدل والحريّة، ويبدو أنّ الباي قد رأى في قراره الأوّل إمكانيّة لإقناع الباب العالي بأنّه بصدد تطبيق ما ورد عليه. وقد كان أحمد باي يحاول الإبقاء على صلة، ولو رمزيّة، بالعثمانيّين، رغم رفضه أكثر من مرّة دفع ضريبة سنويّة لهم.
كما تورد رسالة الملك إلى المشايخ أنّ في قراره "مصالح سياسيّة منها عدم إلجائهم إلى حرم ولاة غير ملّتهم". ويذهب بوطالب إلى أنّ القصد من ذلك هو سعيه لتجنب هربهم إلى مقرات قناصل البلدان الأوروبيّة والاحتماء بها. ومن المهم الإشارة هنا إلى حالات، يوردها ابن أبي الضياف، هرب فيها تونسيون إلى قنصليّات أجنبيّة، شملت خاصّة موظّفين رسميّين في الدولة. كذلك تكاثرت في أوروبا في تلك الفترة جمعيّات مناهضة للعبوديّة، ويبدو أنّها كان لها تأثير في قرار الباي. حيث يقول ابن أبي الضياف: "ولمّا وقع هذا التّحرير صار له في أمم الحريّة موقع عظيم. وكاتبه أعيان من الإنجليز بالشكر على هذه المأثرة وطبع في صحف الحوادث بالبلدان وطبعت في مالطة أوراق بالعربيّة في ما يتعلّق بملك الإنسان والتنفير منه".
رغم إقرار الإلغاء بتونس بصفة لا رجعة فيها منذ 171 عامًا، لم تفعل بقية ممالك العالم الإسلامي مثلها إلاّ بعد عقود من الزمن
أما الدافع الثالث لقرار إلغاء العبوديّة، فهو دافع دينيّ إسلاميّ. فقد اعتمد أحمد باي في قراره على واعز شرعيّ أيضًا، حيث جاء في كتاب الإتحاف: "وذلك أنّ غالب أهل هذه المملكة عمّرها الله تعالى لا يحسنون ملك إخوانهم من بني آدم على الوجه الشرعيّ ولا قريب منه". كما يدفع الملك في مطلع رسالته إلى المشايخ بحجّة إسلام العبيد، حيث يقول "وقد أشرق بقطرهم صبح الإيمان منذ أزمان". ووافق شيخا المذهبين المالكيّ والحنفيّ في ردهما الباي رأيه. حيث أجابه أبو عبد الله محمّد بيرم، رئيس الفتوى من الحنفيّة، بأنّه "الصواب المتعيّن لا سيّما وقاعدة ملك هؤلاء السّودان ليست مبنيّة على أساس صحيح لاختلاط من هو حرّ الأصل منهم بغيره. يعلم ذلك من وقف على رسالة الشيخ سيدي أحمد بابا في المسألة"، وأجابه أبو إسحاق إبراهيم الرياحيّ، كبير أهل الشورى من المالكيّة، قائلًا "انشرحت بما تضمّنه صدرًا. إذ كان مضمونه رأيكم السديد في عتق هؤلاء العبيد.لما ذكرتم من كلّ وجه سديد. يقبله من له عقل رشيد وعلم مديد". كما ظهرت في البلاد أيضًا رسالة، لم يذكر اسم كاتبها ونسبت، كما يقول ابن أبي الضياف، إلى بعض البلدان من أوروبا، تؤيّد القرار وتسنده بناء على حجج دينيّة إسلاميّة حيث تقول مثلًا: "ومن زاول الشرائع وقواعدها وظواهرها ومقاصدها خصوصًا الشريعة المحمديّة المبنيّة على الرفق والرحمة ينفر من هذا المباح وهو ملك أخيه الآدميّ المتأهّل للنبوة والخلافة في الأرض وغير ذلك من الكمالات الإنسانيّة".
رغم عدم وجود سوابق عديدة في إلغاء العبوديّة على نحو كليّ في العالم بصفة عامة والعالم الإسلاميّ بصفة خاصّة، إلا أنّ أحمد باي (حكم بين 1837 و1855) اتخذ قرار إلغائها مرتكزًا على دوافع شخصيّة ودينيّة وسياسيّة. ورغم إقرار الإلغاء بتونس بصفة لا رجعة فيها، وانتشار الخبر في أرجاء العالم، لم ترسم بقيّة ممالك وإمارات العالم الإسلاميّ على منواله إلاّ بعد عقود من الزمن (وتوجد من البلاد الإسلاميّة من منعت الرّق في النصف الثاني من القرن العشرين). وكما كان أحمد باي جريئًا وسباقًا في قراره في ذلك الزمن، يتحتّم علينا اليوم أن نتعلم الدرس ونكون سباقين في مكافحة رواسب العبوديّة من عنصريّة وحطّ من شأن المختلف لونًا أو دينًا، والعمل ضدّ أشكال معاصرة من العبوديّة والاستغلال، تنتشر للأسف في هذا الحوض الحضاريّ أكثر بكثير مما تنتشر في غيره من البقاع.