في عالم يواجه أزمات بيئية متفاقمة وتحديات اجتماعية متشابكة وتغيرات اقتصادية غير مسبوقة، تبرز معايير ESG كإطار شامل يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان، البيئة، والاقتصاد، هذه المعايير ليست مجرد أدوات تقنية أو شعارات تسويقية، بل هي أداة هامة تسعى لتحقيق التوازن بين التنمية المستدامة والقيم الأخلاقية، في محاولة لإعادة تعريف مفهوم النجاح الاقتصادي بعيدا عن الربح المادي البحت.
مقالات ذات صلة:
الأزمة السياسية في فرنسا: نواب المعارضة يسقطون الحكومة وسط اضطرابات سياسية واقتصادية
فرنسا على مفترق طرق: سقوط الحكومة وسط أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة
تلالت: تثمين نبتة السمارة نموذج للتنمية الاجتماعية والاقتصادية
هذا وتختصر معايير ESG في ثلاثة محاور رئيسية مترابطة تشكل معا منظومة متكاملة تهدف إلى تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، فالمحور البيئي يركز على إدارة الموارد الطبيعية بشكل مسؤول، وتقليل الانبعاثات الكربونية، ومكافحة تغير المناخ، مع الحفاظ على التنوع البيولوجي، أما المحور الاجتماعي يهتم بتعزيز حقوق الإنسان، وتحسين ظروف العمل، والالتزام بالمساواة والتنوع، ودعم المجتمعات المحلية، واخيرا محور الحوكمة يتعلق بضمان الشفافية، ومكافحة الفساد، وتطبيق قواعد إدارة رشيدة داخل المؤسسات بما يعزز النزاهة في اتخاذ القرارات؛ هذه المحاور الثلاثة لا تعمل بمعزل عن بعضها، بل تتكامل لتقديم رؤية شاملة تعيد صياغة العلاقة بين الاقتصاد والمجتمع والبيئة، مما يجعلها أداة جوهرية لمواجهة التحديات العالمية.
وفي4 و5 ديسمبر 2024، استظافة تونس "الملتقى الدولي ESG Impact" بفندق ريجنسي قمرت في حدث يعد الأول من نوعه في المنطقة، حيث هدف هذا الملتقى إلى تسليط الضوء على أهمية معايير ESG كأداة لتحقيق التنمية المستدامة من خلال جمع نخبة من القادة السياسيين والمستثمرين والأكاديميين وممثلي المجتمع المدني، وسعى إلى تعزيز الوعي بمعاني وأبعاد معايير ESG، من ذلك تشجيع التعاون بين القطاعين العام والخاص لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ومناقشة استراتيجيات قابلة للتطبيق في السياقات المحلية والدولية مع التركيز على خصوصيات الدول النامية، كما وان هذا الحدث لم يقتصر على كونه منصة أكاديمية أو تقنية، بل مثل فرصة عملية لتبادل الأفكار والخبرات وبناء شبكات تعاون جديدة من شأنها أن تسهم في تعزيز الاقتصاد الأخضر وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ورغم ما تحمله معايير ESG من وعود براقة إلا أنها ليست بمنأى عن النقد، اذ يرى البعض أن تطبيقها يشكل تحديا للشركات الصغيرة والمتوسطة، خصوصا في الأسواق النامية التي تعاني من محدودية الموارد، وهناك مخاوف من أن تتحول هذه المعايير إلى مجرد شعارات تسويقية دون تحقيق أثر حقيقي على الأرض، كما وان تطبيقها يتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية والتكنولوجيا وتدريب الكوادر البشرية مما قد يكون صعبا على بعض المؤسسات، ولكن على الجانب الآخر، تشير الدراسات إلى أن الشركات التي تتبنى هاته المعايير تحقق أداء ماليا أفضل على المدى الطويل حيث تجذب استثمارات مستدامة وتبني سمعة إيجابية، فالالتزام بفحوها يدفع الشركات إلى تطوير حلول مبتكرة تتماشى مع أهداف الاستدامة، وتطبيق الحوكمة يعزز الشفافية والمصداقية مما يزيد من ثقة المستثمرين والعملاء.
بالاصافة الى ذلك، عد استكشاف دور البنوك والمؤسسات المالية في دعم معايير ESG كأحد المحاور الرئيسية للملتقى حيث يعد التمويل المستدام ضرورة لتحقيق الانتقال إلى اقتصاد أخضر، اذ تواجه المؤسسات المالية تحديات مثل صعوبة قياس المخاطر المرتبطة بالاستثمارات المستدامة، تحقيق التوازن بين تقديم حلول تمويلية مستدامة وضمان تحقيق الأرباح، وضمان أن تكون الاستثمارات المستدامة ذات أثر حقيقي وليست مجرد وسيلة للتسويق، ومن جهة أخرى، يمثل التمويل الأخضر فرصة لتقديم قروض ومنح للمشاريع التي تركز على الطاقة المتجددة والزراعة المستدامة والبنية التحتية الخضراء، فالمؤسسات المالية التي تتبنى هاته المعايير تظهر التزاما أكبر بالاستدامة مما يعزز ثقة العملاء والمستثمرين.
لا يمكن الحديث عن معايير ESG دون التركيز على البعد الاجتماعي الذي يتجاوز تحسين ظروف العمل أو الالتزام بالتنوع، فالأولويات قد تختلف في الدول النامية حيث تركز هذه الدول على تحسين التعليم والصحة والبنية التحتية الأساسية بدلا من التركيز الحصري على خفض الانبعاثات الكربونية، وهناك حاجة إلى نهج مرن يأخذ في الاعتبار اختلاف السياقات والاحتياجات مع مراعاة الأولويات المحلية؛ ولعل استضافة تونس للملتقى في وقت تواجه فيه البلاد تحديات اقتصادية وسياسية معقدة إلا أنها تمتلك إمكانات هائلة لتكون نموذجا يحتذى به في تبني معايير ESG، من شأنه أن يؤدي الى تحسين إدارة الموارد المائية وتعزيز الإنتاج الزراعي الصديق للبيئة، تطوير مشاريع سياحية تعتمد على الحفاظ على البيئة والتنوع البيولوجي، والاستثمار في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري هي بعض الفرص الواعدة التي يمكن أن تساهم في تحقيق التنمية المستدامة، ومع ذلك تظل الحاجة إلى إرادة سياسية قوية لتنفيذ إصلاحات جذرية وبناء تعاون بين القطاعين العام والخاص لدعم المشاريع المستدامة من التحديات الرئيسية.
في نهاية المطاف، تظل معايير ESG أداة قوية لإعادة التفكير في منظومة القيم التي تحكم الاقتصاد والسياسة، فتحقيق الاستدامة يتطلب إرادة جماعية تتخطى حدود الدول وتؤمن بأن التحديات العالمية لا يمكن حلها بشكل فردي، فالجمع بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة وحقوق الإنسان مع مراعاة خصوصيات كل دولة هو التحدي الأكبر، وتحويل هاته المعايير إلى ثقافة عالمية تعيد للإنسانية توازنها المفقود وتضع الاستدامة كأولوية قصوى هو الهدف الأسمى، كما وان هذا الملتقى ليس مجرد حدث عابر بل هو دعوة لإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والبيئة والاقتصاد في رحلة نحو مستقبل أكثر استدامة وعدالة.