منذ اندلاع شرارة الثورة التونسية في 17 ديسمبر 2010، التى كانت بمثابة نقطة تحول تاريخية في مسار الدولة التونسية، لم تكن مجرد احتجاجات ضد الظلم الاجتماعي والاقتصادي فحسب بل كانت صرخة ضد عقود من الاستبداد والفساد، ضد هيمنة الدولة العميقة التي تغلغلت في كل مفصل من مفاصل الدولة؛ وبينما كان التونسيون يعتقدون أن سقوط بن علي في 14 جانفي 2011 قد شكل نهاية حتمية لعقود من الدكتاتورية اكتشفوا بسرعة أن سقوط رأس النظام لم يكن يعني انهيار المنظومة السياسية نفسها، فالدولة العميقة التي لا تقتصر على أفراد بعينهم بل على شبكة معقدة من المصالح التي تجمع بين السياسيين والاقتصاديين والقضاء والإعلام، لم تسقط مع بن علي بل أعادت تشكيل نفسها بأدوات جديدة لتستمر في السيطرة على مفاصل الدولة وتعرقل أي محاولة حقيقية للتغيير.
مقالات ذات صلة:
تمكين النساء والشباب هو المفتاح لتحقيق أهداف الثورة
قرطاج تحتفل بكتاب جديد عن الثورة التونسية
"وصايا الديك".. مسرحية تمزج العبث بالسخرية لتفكيك واقع تونس ما بعد الثورة
الدولة العميقة في تونس ليست وليدة بن علي بل تعود جذورها إلى فترة الاستقلال في عام 1956 عندما تأسس نظام الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية، فالرئيس الذي لعب دورا محوريا في بناء الدولة الحديثة أسس نظاما سياسيا يتمحور حول الحزب الواحد حيث أصبح "الحزب الاشتراكي الدستوري" هو الدولة نفسها، وتحت هذا النظام احتكر الحزب كل مفاصل السلطة من القضاء إلى الأمن والإعلام مما جعل مؤسسات الدولة مجرد أدوات لخدمة المشروع السياسي البورقيبي، ليكون بذلك الهدف الوحيد من هذا النظام هو فرض السيطرة التامة على المجتمع وبناء دولة مركزية لا تسمح فيها لأي فئة أو جهة أخرى بمنافسته.
ومع مرور الوقت، وتدهور صحة بورقيبة في الثمانينات بدأ النظام يظهر علامات تآكل داخلي، ففي عام 1987 وقع انقلاب زين العابدين بن علي الذي جاء ليؤكد استمرارية النظام ذاته ولكن بوجوه جديدة، وعلى الرغم من تغيير اسم الحزب الحاكم إلى "التجمع الدستوري الديمقراطي"، ومظاهر الإصلاح التي قدمها بن علي في بداية حكمه فإن التغيير كان شكليا فحسب، فقد واصل بن علي نفس سياسات سلفه مستفيدا من الأجهزة الأمنية للقمع الممنهج واستخدم القضاء والإعلام لتصفية الخصوم السياسيين وتعزيز سلطته، وفي هذه الفترة تطورت الدولة العميقة بشكل تدريجي لتصبح أكثر نفوذا وأكثر تعقيدا حيث تم استيعاب النخب الاقتصادية في تلك الشبكة مما جعل المصالح السياسية والاقتصادية مترابطة بطريقة يصعب تفكيكها.
وفي عام 2011، عندما اندلعت الثورة الشعبية وأسقطت بن علي كان التونسيون يعتقدون أنهم قد بدأوا عهدا جديدا، كانت الآمال كبيرة بتحقيق القطيعة مع ممارسات النظام السابق، وكان من المتوقع أن تتغير موازين القوى بشكل جذري لصالح الشعب؛ ولكن ومع مرور الوقت تبين أن هذا التحول لم يكن سهلا كما كان يظن كثيرون، فالدولة العميقة التي وجدت في ضعف المرحلة الانتقالية فرصة لإعادة تنظيم صفوفها، بدأت تظهر مرة أخرى ولكن هذه المرة في شكل سياسي جديد، فالقوى السياسية التي وصلت إلى السلطة بعد الثورة لم تكن قادرة على مواجهة هذا النفوذ العميق الذي لا يزال يشكل تهديدا حقيقيا لتطلعات الشعب التونسي.
في فترة ما بعد الثورة، تولى فؤاد المبزع رئيس المجلس الوطني التأسيسي قيادة المرحلة الانتقالية لكن تبين سريعا أن معظم التحديات السياسية والاقتصادية كانت مرتبطة بالاستمرار في التعامل مع الدولة العميقة التي كانت ترفض التغيير الجذري، وظهر ذلك بشكل جلي في انتخاب المنصف المرزوقي في 2011 رئيسا للجمهورية حيث كانت الوعود بتأسيس ديمقراطية حقيقية تتصادم مع الواقع المعقد للنظام السياسي الذي ما زال يحكمه نفس التوازنات.
ثم جاءت مرحلة الباجي قائد السبسي الذي تولى الرئاسة في 2014، والذي كان ينظر إليه من قبل البعض على أنه رمز للاستقرار السياسي لكنه في نظر آخرين كان تجسيدا لمحاولات إعادة إنتاج النظام القديم، ففي عهده بدأ التدخل الواضح لإعادة دمج العديد من الشخصيات المحسوبة على النظام السابق في المشهد السياسي، وكان السبسي قد خدم في فترات مختلفة في حكومات بورقيبة وبن علي مما جعل كثيرين يرون في عودته محاولة لإعادة إنتاج نفس المنظومة التي أسقطتها الثورة.
ولا يمكننا أن ننسى حركة النهضة التي أسسها راشد الغنوشي في السبعينيات والتى انت منذ بداية ظهورها في المشهد السياسي التونسي محط جدل ، فبعد الثورة استطعت أن تصبح قوة سياسية بارزة في البلاد حيث تولت السلطة في مرحلة ما بعد بن علي ورغم خطابها الذى كان يسعى الى أن يكون معتدل داعيا إلى التوافق والمصالحة الوطنية كانت علاقتها مع الإرهاب مثار شكوك واتهامات خاصة مع تورطها في الهجمات الإرهابية الكبرى في باردو وسوسة عام 2015، كما انها لم تأخذ اي مواقف حاسمة ضد الجماعات الجهادية التي كانت تجند الشباب التونسي للقتال في سوريا والعراق، بالإضافة إلى تسهيلات غير مباشرة لبعض التيارات السلفية المتشددة داخل البلاد.
ومن جهة أخرى، كان اغتيال المعارضين السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في 2013 نقطة تحول حيث اكد الشكوك حول وجود صلات بين قيادات النهضة والجماعات المتورطة في الإرهاب، ورغم أن الحركة نفت تورطها المباشر في ذلك الوقت الا إن طريقة تعاملها مع هذه الأحداث وتورط بعض العناصر المرتبطة بها في أنشطة مسلحة فاقم من الأزمة السياسية.
ثم جاء الاستاذ قيس سعيد الذي تم انتخابه في 2019 ليكسر هذا الاستمرارية؛ الشخصية الاكاديمية ونظيفة الكف الذي عبر عن رغبة عميقة في قطيعة حقيقية مع ماضي تونس السياسي المقيت، فقد كانت جميع خطابته السياسية شديد الوضوح مؤكدا فيها دائما بأن "الشعب هو مصدر كل سلطة"، هذا الخطب لم تكن مجرد كلمات بل كان تعبيرا عن رفض شامل للدولة العميقة التي هيمنت على مفاصل الدولة طوال عقود؛ فسعيد الذي لم ينخرط في اللعبة السياسية التقليدية اختار أن يكون صوتا للشعب بكل أطيافه، وفي 25 جويلية 2021، أعلن عن قرارات جريئة تمثلت في تعليق عمل البرلمان وتفعيل تدابير استثنائية وهي القرارات التي أثارت الجدل في الداخل والخارج، اذ اعتبرها البعض خطوة ضرورية لإنقاذ البلاد من المأزق السياسي في حين اعتبرها آخرون بداية لانزلاق نحو الحكم الفردي.
ولكن لا يمكن إنكار أن قراراته مثلت نقطة فارقة في الصراع مع الدولة العميقة التي كانت تهيمن على الاقتصاد والإعلام والقضاء وحاولت بشتى الطرق أن تقاوم هذا التغيير، ولكن قراراته ساهمت في تكريس فكرة إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، بعيدا عن سلطة النخب التقليدية.
وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة لتحقيق العدالة بوجود قضاة شرفاء وقفوا ولازالوا في وجه هذه التأثيرات وحاولوا بشتى الطرق وبصدق الدفاع عن مبادئ العدالة وسيادة القانون ومواجهة نظام مترسخ، يبقى البعض أحد العقبات الكبرى في مواجهة هذا الفساد المستشري، فعلى الرغم من بعض المحاكمات الرمزية لبعض رموز النظام السابق فإن الكثير من الملفات الكبرى بقيت عالقة في دوائر التأجيل والتقاضي البطيء، فالقضاء التونسي الذي كان من المفترض أن يكون محايدا وحاميا للعدالة ظل محكوما بتأثيرات الدولة العميقة التي جعلت منه أداة لتصفية الحسابات السياسية مما أعاق أي محاولة جادة لإعادة بناء الثقة بين الشعب والمؤسسات.
اقتصاديا، عمدت الدولة العميقة إلى استغلال الأزمة المالية الخانقة التي تعيشها تونس منذ سنوات والتي تفاقمت مع جائحة كورونا وتراجع الاستثمارات، معمقة ازمة ارتفاع معدلات البطالة، التضخم، وشح الموارد المالية التى لم تكن مجرد نتائج طبيعية لتحولات سياسية بل كانت في جانب منها صناعة ممنهجة تهدف إلى إضعاف إرادة الشعب وتعزيز الشكوك حول أي مشروع إصلاحي؛ ورغم كل ماسبق لا يمكن إنكار وجود بعض الشرفاء من الاقتصاديين والخبراء الذين سعوا بصدق إلى تقديم حلول فعلية وتوجيه السياسات نحو التعافي الاقتصادي الحقيقي لكنهم غالبا ما اصطدموا بنفوذ الدولة العميقة التي تقاوم التغيير.
الإعلام، بدوره لعب دورا مزدوجا ففي الوقت الذي يفترض أن يكون فيه صوتا للشعب تحول في كثير من الأحيان إلى أداة للتلاعب بالرأي العام وتشويه الخصوم السياسيين؛ فمع ذلك كان هناك ايضا إعلاميون شرفاء التزموا بمبادئ المهنة وسعوا إلى نقل الحقيقة والدفاع عن قضايا الشعب لكن جهودهم ظلت محدودة في مواجهة شبكات إعلامية كانت ولازالت مسيسة تعمل لخدمة مصالح الدولة العميقة.
أمنيا، كانت الأجهزة الأمنية أداة رئيسية بيد الدولة العميقة لضمان استمرار نفوذها والسيطرة على مفاصل الدولة، فرغم أن الأمن يفترض أن يكون في خدمة الشعب وحاميا لاستقراره إلا أن جزءا كبيرا من هذه الأجهزة استخدم لقمع المعارضة وتصفية الخصوم السياسيين مما ساهم في تعميق أزمة الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة؛ ولكن لا يمكن ابدا تجاهل وجود شرفاء داخل المؤسسة الأمنية رجال ونساء مخلصين لوطنهم سعوا جاهدين لأداء واجبهم بمهنية وإخلاص بعيدا عن أي ولاءات سياسية أو ممارسات تخدم مصالح ضيقة، فهؤلاء الشرفاء يمثلون الأمل في بناء جهاز أمني يحترم حقوق الإنسان ويعمل على حماية الوطن والمواطنين بكل نزاهة وعدالة.
إداريا وسياسيا، تغلغل نفوذ الدولة العميقة في مفاصل المؤسسات الحيوية بدءا من الوزارات والولايات مرورا بالمعتمديات والبلديات ووصولا إلى البرلمان.
فعلى مستوى الوزارات، استخدمت الهياكل الإدارية العليا لتعزيز شبكات المصالح حيث تم اتخاذ العديد من القرارات لخدمة النخب واللوبيات الاقتصادية بدلا من خدمة الشعب مما أدى إلى تعطيل المشاريع الإصلاحية الكبرى، ولكن برز بين هؤلاء الوزراء وموظفي الوزارات شرفاء سعوا بكل جهد لتنفيذ سياسات تنموية وتحقيق العدالة الاجتماعية رغم الضغوط والعراقيل التي فرضتها الدولة العميقة.
وفي الولايات، تعرض الولاة لضغوط هائلة من أجل الحفاظ على سياسات التهميش خاصة في المناطق الداخلية، فبدلا من أن تكون الولايات مراكز لتحقيق التنمية المحلية أصبحت أداة لترسيخ التفاوت الجهوي، ورغم ذلك ايضا ظهر ولاة شرفاء قاتلوا بإخلاص من أجل تحسين الظروف المعيشية ودفع عجلة التنمية في مناطقهم.
أما في المعتمديات، فقد تحولت بعضها إلى مواقع نفوذ تخدم الدولة العميقة بدلا من أن تكون في خدمة المواطنين، فقد استخدم العديد من المعتمدين لتعطيل أي تغيير جذري أو مشاريع إصلاحية، وكالعادة كان هناك دائما معتمدون شرفاء حرصوا على التواصل مع المواطنين والعمل على تحسين ظروفهم بكل الإمكانات المتاحة.
وفي البلديات، ورغم دورها المفترض كقوة قريبة من المواطنين تعنى بتقديم الخدمات وتحقيق التنمية المحلية أصبحت العديد منها مراكز لتصفية الحسابات السياسية أو تعزيز نفوذ القوى المهيمنة، و لكن لا يمكن إنكار وجود رؤساء بلديات وأعضاء مجالس بلدية شرفاء عملوا بإخلاص لتحسين الخدمات وتطوير البنية التحتية رغم التحديات.
اما على مستوى البرلمان، الذي يفترض أن يكون صوت الشعب وممثله في صنع القرار تأثر هو جزء كبير منه بشبكات الدولة العميقة حيث تم توظيفه لتعطيل القوانين الإصلاحية أو تمرير سياسات تخدم النخب ومع ذلك برز نواب شرفاء وقفوا إلى جانب الشعب وحرصوا على رفع صوته الحقيقي في مواجهة نفوذ المصالح الضيقة.
إضافة إلى المؤسسات الحكومية تأثرت الجمعيات والمنظمات والأحزاب السياسية أيضا بنفوذ الدولة العميقة التي حاولت استغلال هذه الهيئات لتوسيع دائرة سيطرتها على المشهد السياسي والاجتماعي، ففي العديد من الأحيان كانت الجمعيات والمنظمات التي يفترض أن تقوم بدور الرقابة والمساهمة في التنمية المستدامة تستخدم كأدوات لتسويق سياسات النظام أو لفرض أجندات معينة تهدف إلى الحفاظ على الوضع القائم، وعندما كانت بعض الجمعيات تسعى لتحقيق أهداف تنموية أو حقوقية كانت تجد نفسها محاصرة من قبل قوى سياسية تتحكم في التمويل والتوجيه مما يعوق عملها الفعلي.
أما الأحزاب السياسية، فقد كانت أيضا في كثير من الحالات ساحة للصراع بين قوى الدولة العميقة وطموحات الإصلاح والتغيير، قد نجح بعضها في الحفاظ على وجوده في المشهد السياسي واستطاع تكوين تحالفات مع قوى السلطة لإبقاء الهيمنة السياسية قائمة، وفي المقابل كانت هناك أحزاب سياسية شرفاء ناضلوا من أجل الإصلاح والتغيير ولكنهم غالبا ما اصطدموا بالحواجز التي وضعتها الدولة العميقة مثل التضييق على تمويلاتهم أو محاولات تشويه سمعتهم في الإعلام.
وعلى المستوى الشعبي، فإن الصراع الحقيقي لا يزال يتمثل في كيفية إعادة إشراك المواطن في الحياة السياسية والاجتماعية، فالدولة العميقة التي تتغذى على ضعف المشاركة الشعبية راهنت دائما على نشر الإحباط واليأس.
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه التحديات لا تزال إرادة الشعب التونسي قوية في مواجهة هذه القوى العميقة، فالمناطق الداخلية المهمشة التي كانت في قلب الثورة تواصل مطالباتها بحقوقها في التنمية والعدالة الاجتماعية، فهي لا ترى معركتها مجرد معركة اقتصادية فحسب بل هي معركة إعادة تعريف الدولة وعلاقتها بالمجتمع.
وبعد أكثر من عقد على الثورة، يبقى السؤال الكبير المطروح هل تستطيع تونس تحقيق القطيعة النهائية مع ماضيها الاستبدادي؟ الإجابة على هذا السؤال ليست بسيطة، إذ تتطلب رؤية شاملة وإرادة سياسية حقيقية ومشاركة فاعلة من جميع فئات الشعب، فالقطيعة مع الماضي لا تتم إلا بإعادة هيكلة الدولة على أسس من العدالة والمساواة وإيجاد حلول جذرية للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المواطنون، اذ ان تحقيق ذلك يتطلب بالضرورة استكمال مسار الثورة وبناء دولة ديمقراطية حقيقية قادرة على استعادة ثقة المواطن في مؤسساتها.
ويبقى رئيس الجمهورية الاستاذ قيس سعيد في قلب هذه المعركة الكبيرة ضد الدولة العميقة التى لا تزال متجذرة ومدعومة بأوامر وأموال من الخارج لتوسيع نفوذ الفساد، فإذا لم يتم العمل بجدية على إشراك الشباب المستقل سياسيا وتعزيز الوحدة الوطنية والثقة بين المواطنين سنظل عالقين في صراع مستمر، فالشباب هو مفتاح التغيير والبناء وإهماله يعني استمرار دوامة عدم الاستقرار، كما يجب أن يكون المستقبل قائما على النزاهة والعدالة وبالرغم من المعارضة الداخلية والخارجية فإن نجاحه في مواجهة هذه القوى المتجذرة في المجتمع التونسي قد يكون العامل الحاسم لتحقيق التغيير الحقيقي، وبذلك تظل تونس في مفترق طرق إما أن تكون نموذجا لنجاح الشعوب في التحرر من هيمنة النخب أو أن تظل عالقة في دوامة الفساد والهيمنة.