مع دخول تونس مرحلة جديدة من التحول السياسي والاجتماعي بعد دستور 2022، برزت مسألة الحكم المحلي كإحدى الركائز التي يعول عليها لتحقيق التنمية المتوازنة والاندماج الوطني، إلا أن هذا الطموح يواجه واقعا معقدا يختلط فيه الغموض القانوني بتحديات اقتصادية واجتماعية، مما يثير أسئلة جوهرية حول فعالية النظام المحلي في تونس وقدرته على تحقيق أهدافه.
مقالات ذات صلة:
الجمعية التونسية للقانون الدستوري تحذّر: المسار الانتخابي في خطر بسبب تجاهل أحكام القضاء
الثنائية البرلمانية في إطار دستور 25 جويلية 2022 بين التحديات وآفاق
يعد الحكم المحلي أحد أعمدة الدستور التونسي الجديد، الذي أقر بضرورة اللامركزية كأساس لتوزيع السلطة بين المركز والأطراف، ووفقا للدستور، تعتبر المجالس المحلية، الجهوية، والإقليمية هيكلا جوهريا لتحقيق التشاركية في اتخاذ القرار وتمكين المواطنين من المشاركة الفعلية في إدارة شؤونهم؛ ومع ذلك، يثير هذا الإطار الدستوري العديد من الإشكاليات خاصة فيما يتعلق بالترجمة العملية لمبادئه، ومدى وضوح الصلاحيات والاختصاصات بين الهياكل المحلية المختلفة.
أحد أبرز الإشكالات التي تعترض الحكم المحلي في تونس يتمثل في غموض العلاقة بين مختلف الهياكل المحلية مثل البلديات، العمادات، المعتمديات، والمجالس المحلية، فعلى الرغم من وجود قانون أساسي ينظم الانتخابات المحلية، إلا أن النصوص القانونية لم توضح بشكل كاف توزيع المهام والصلاحيات مما أدى إلى تداخل وظيفي بين هذه المؤسسات، هذا التداخل لا يقتصر فقط على البعد الإداري، بل يمتد ليشمل الجانب التنموي، حيث يلاحظ صراع غير معلن بين البلديات والمجالس المحلية حول تحديد الأولويات التنموية وتنفيذها.
هذا ويمثل القانون الأساسي للمجالس المحلية المعروض حاليا أمام مجلس النواب محاولة لتوضيح الإطار القانوني لهذه المجالس لكنه لم يسلم من الانتقادات، فلقانون الذي يتألف من عشرة فصول فقط يوصف بالهزيل مقارنة بطموحات الحكم المحلي، فعلى سبيل المثال منح القانون للمجالس المحلية الشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية، إلا أنه لم يحدد بدقة مصادر التمويل أو آليات تحقيق هذه الاستقلالية، وبدلا من أن تكون المجالس المحلية جهة تنفيذية قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة، اقتصر دورها على التداول وإبداء الرأي في الخطط التنموية مما يجعلها أقرب إلى هيئة استشارية منها إلى جهة تنفيذية.
إلى جانب الإشكاليات القانونية، يعاني الحكم المحلي في تونس من تحديات اقتصادية تهدد بتحويل المجالس المحلية إلى هياكل شكلية، فضعف الموارد المالية وعدم وجود آليات تمويل مستقلة يحد من قدرة هذه المجالس على تنفيذ مشاريع تنموية تلبي تطلعات المواطنين، وفي ظل غياب رؤية استراتيجية لتوزيع الموارد بين المركز والأطراف، يبقى السؤال مطروحا كيف يمكن تحقيق استقلالية مالية فعلية لهذه المجالس دون الإضرار بتوازن المالية العامة للدولة؟
وعلى الرغم من أن الحكم المحلي يهدف إلى تقريب السلطة من المواطن، إلا أن ضعف الوعي المجتمعي بطبيعة هذه المجالس وأدوارها يشكل عقبة إضافية أمام نجاح التجربة، فكثير من المواطنين لا يفرقون بين المجلس البلدي والمجلس المحلي، بل إن بعضهم يرى في هذه المجالس تكرارا لنماذج فاشلة سابقة، هذا الغموض يعمق من أزمة الثقة بين المواطن والمؤسسات المحلية، وهو ما يحتم ضرورة تبني حملات توعوية شاملة تعرف المواطن بحقوقه وواجباته في إطار النظام المحلي الجديد.
ولتجاوز هذه التحديات، تحتاج تونس إلى رؤية إصلاحية شاملة تنطلق من إعادة صياغة العلاقة بين المركز والأطراف وفق أسس واضحة ومتوازنة، حيث يتطلب ذلك مراجعة القانون الأساسي للمجالس المحلية بما يضمن توزيعا دقيقا للصلاحيات بين مختلف الهياكل، مع تعزيز الموارد المالية عبر آليات مبتكرة مثل الضرائب المحلية، أو تخصيص نسب محددة من الميزانية العامة لهذه المجالس، كما يجب العمل على تكريس مبدأ الشفافية في إدارة هذه الموارد بما يضمن تحقيق التنمية العادلة والمستدامة.
علاوة على ذلك، ينبغي على الدولة أن تضع سياسات تعليمية وإعلامية تهدف إلى بناء وعي مجتمعي حقيقي بدور الحكم المحلي، وإرساء ثقافة المواطنة الفعالة التي تحول المواطن من متلق للقرارات إلى شريك في صياغتها وتنفيذها.
ختاما، الحكم المحلي في تونس ليس مجرد خيار دستوري أو إداري، بل هو مسار استراتيجي لتحقيق التنمية المتوازنة وإرساء العدالة الاجتماعية، ومع ذلك فإن نجاح هذا المسار يعتمد على قدرة الدولة على تجاوز العقبات القانونية والاقتصادية والاجتماعية التي تهدد بتقويضه، فتونس اليوم أمام مفترق طرق إما أن تحول الحكم المحلي إلى أداة فعالة لتغيير واقعها التنموي، أو أن تتركه رهينة لغموض التشريعات وضعف الموارد، فالخيار بين أيدي صناع القرار لكن الرهان الأكبر يبقى على وعي المواطن الذي يمكن أن يكون شريكا حقيقيا في بناء مستقبل محلي أفضل على جميع الاصعدة.