في شوارع المدن الكبرى كما الأحياء الشعبية وفي مداخل الأسواق الأسبوعية كما على قارعة الطرقات وحتى في محيط المستشفيات والمؤسسات التربوية لم يعد وجود الرصيف مضمونا للمترجل، فالانتصاب العشوائي تمدد بلا قيد أو شرط مكتسحا الأرصفة متجاوزا حوافّ الطرق وواصلا إلى حد السيطرة الكاملة على جزء من الطريق العام، المشهد لم يعد مجرد فوضى موسمية مرتبطة بالأعياد أو المناسبات ولكنه تحول إلى نظام مواز يحتل الفضاء العمومي ويعيد تشكيله وفق منطق الأقوى يحتل.
ولئن كان الانتصاب الفوضوي في ظاهره نتيجة هشاشة الوضع الاقتصادي وغياب البدائل التنظيمية للفئات المهمشة، فإنه في عمقه يعكس أزمة أكثر تعقيدا أزمة في إدارة الفضاء العام وأزمة أعمق في تفعيل أدوات الدولة المحلية وفي مقدمتها البلديات التي تخلت قسرا أو تواطؤا عن دورها في فرض القانون وتنظيم الفضاء البلدي.
اليوم وفي ظل حل المجالس البلدية وغياب رؤساء البلديات المنتخبين تعيش المؤسسات المحلية حالة من الشلل المزمن فالهياكل المؤقتة المعيّنة تفتقر للإرادة والشرعية ولا تملك الأدوات القانونية ولا الإدارية لمواجهة هذا النزيف اليومي للملك العمومي بل إن بعض البلديات لم تعد تملك حتى أعوان الضابطة العدلية القادرين على تحرير محاضر المخالفات أو رفع تقارير قانونية للسلطات القضائية المختصة.
والسؤال الذي يطرح بإلحاح هنا هل استحال فعلا الحد من الانتصاب الفوضوي بسبب هشاشة الضبط الإداري البلدي أم أن الأمر أعقد من ذلك؟ هل نحن بصدد سياسة غض الطرف المتعمدة التي تستند على منطق دع الأمور تمر تفاديا للانفجار الاجتماعي أم أمام عجز فعلي عن تطبيق القانون بسبب ضعف الموارد وتداخل الصلاحيات وتعطل دواليب الدولة الجهوية بعد حل مجالسها المنتخبة؟
المواطن،ط من جهته يدفع الثمن على أكثر من مستوى فالمترجل أصبح مهددا في أبسط حقوقه ألا وهو السير الآمن والأمهات يضطررن للنزول إلى الشارع وسط السيارات مع أطفالهن بسبب رصيف محتل بالكامل وكبار السن وذوو الإعاقة لا يجدون منفذا للمرور والمستهلكون يشترون سلعا معروضة على الأرض وتحت أشعة الشمس والغبار في غياب الرقابة الصحية أو احترام قواعد النظافة العامة، أما السائق فصار مضطرا للتعامل مع اختناق مروري لا تسببه كثافة السيارات لكنه فوضى الانتشار غير القانوني للطاولات والكراسي والصناديق.
وفي المقابل، فإن البلديات التي يفترض أن تكون الجهة المخولة لتنظيم الانتصاب العشوائي أو حتى تقنينه تفوت يوميا موارد مالية ضخمة يمكن أن تجنى من خلال تنظيم هذه الأنشطة في أسواق بلدية رسمية أو تخصيص فضاءات للعرض بمقابل رمزي يضمن كرامة المنتصب ويؤمن مداخيل قارة للبلديات، لكن الإرادة مفقودة والرؤية غائبة وما تبقى هو مجرد اجتهادات ظرفية مرتبطة أحيانا بمواسم انتخابية أو ضغوط إعلامية.
ما يحدث اليوم لا يخص فقط أرصفة العاصمة أو الأسواق الأسبوعية في الجهات لكنه يطال حتى الطرقات السيارة حيث لم تسلم من بروز نقاط بيع فوضوية للمياه والمأكولات على حافاتها وهنا لا نتحدث فقط عن فوضى بل عن خطر مباشر على سلامة مستعملي الطريق وغياب تام لأي رقابة أو تدخل وقائي، فأين الدولة؟ أين البلديات؟ من يحمي حياة الناس وكرامتهم في الفضاء العام؟
إن المشهد الحالي يعكس فشلا ممنهجا في إدارة الشأن المحلي وتراجعا خطيرا في دور السلطة العمومية وتآكلا تدريجيا لهيبة الدولة فالفضاء العام ليس مجرد أرض ترابية يمكن اقتسامها لكنه تجسيد فعلي للحق في المدينة وللتنظيم الاجتماعي المشترك الذي من دونه يتحوّل المجتمع إلى غابة يتقدّم فيها من يفرض نفسه بالقوة.
كما وإن استمرار هذه الفوضى دون حلول هيكلية ودون تمكين البلديات من مواردها البشرية والمالية ومن آليات الضبط الفعلي لا يعني فقط تآكل جودة الحياة لكنه تهديد مباشر لمفهوم الدولة نفسه وإذا لم يتم تفعيل الضابطة العدلية وتحديث أدوات الرقابة وتوفير التكوين والدعم للبلديات فإن الاحتلال سيتواصل وقد يتمدد ليشمل كل ما تبقى من المشترك العمومي.
ويبقى السؤال معلقا متى تستفيق الدولة من سباتها؟ ومتى يستعيد الرصيف مكانته كرمز حضاري وحق أساسي لكل مترجل؟ ومتى تصبح سلطة الضبط أكثر من مجرد شعار إداري فارغ من أدواته وفاعليه؟ وإلى ذلك الحين سيبقى المواطن يشتكي والرصيف محتل والقانون غائب في انتظار أن تعود الدولة إلى شوارعها.