اختر لغتك

القطارات في تونس بين هشاشة المنظومة وسلسلة المخاطر المتراكمة

القطارات في تونس بين هشاشة المنظومة وسلسلة المخاطر المتراكمة

القطارات في تونس بين هشاشة المنظومة وسلسلة المخاطر المتراكمة

في تونس، لم تعد حوادث القطارات مجرد وقائع عابرة تسجل على صفحات الصحف بل تحولت إلى مؤشرات صارخة على هشاشة منظومة النقل الحديدي التي يعاني منها المواطن يوميا خصوصا في المناطق الداخلية التي تعتمد على القطارات كوسيلة أساسية للتنقل نحو العاصمة، ففي 3 فيفري 2025 خرج قطار عن السكة في باجة ما أدى إلى توقف الرحلات لساعات طويلة وكشف عن خلل في أجهزة التحكم الإلكتروني للعربات إضافة إلى غياب أجهزة الإنذار الحديثة على الرغم من أن النصوص القانونية منذ 1998 تلزم بتشغيل إشارات تحذيرية عند كل تقاطع، هذه الحادثة ليست معزولة إذ تؤكد تقارير الشركة الوطنية للسكك الحديدية التونسية أن أكثر من 60% من العربات تعود صناعتها إلى ما قبل التسعينات ما يجعلها عرضة متكررة للأعطال، فيما تشير الإحصائيات إلى تسجيل أكثر من 200 حادث قطار بين 2010 و2023 معظمها بسبب أعطاب تقنية ومعابر غير محمية، وهكذا يصبح المواطن في مواجهة شبكة متقادمة تهدد سلامته بشكل يومي.

ولم تمض سوى أشهر قليلة حتى اندلع حريق بمحرك قطار بين سوسة وتونس بتاريخ 19 ماي 2025 مما أدى إلى إصابة 12 شخصا بحالات اختناق واضطراب في مواعيد الرحلات، هذا الحادث عند ربطه بحادث باجة يوضح أن الأعطال الكهربائية ليست حالات فردية بل جزءا من خلل هيكلي في الصيانة، فوفق تقارير وزارة النقل لسنة 2019 لم تجر الفحوص الدورية للمنظومة الكهربائية وفق المعايير الدولية ما خلق فجوة واسعة بين النصوص القانونية والتطبيق العملي، وتؤكد الأرقام أن تونس تخسر سنويا ما لا يقل عن 150 مليون دينار بسبب تأخيرات وتعطيلات ناجمة عن أعطاب وحوادث السكك الحديدية وهو ما يبيّن الأثر الاقتصادي المباشر للفشل في الصيانة.

ثم جاء حادث 23 جويلية 2025 حين اصطدم قطار بمترجل عند تقاطع غير مؤمن في معتمدية الجوهرة وأسفر عن وفاة ثلاثة أشخاص وإصابة سبعة آخرين، هذا الحادث أبرز أن ضعف التوعية المجتمعية يتشابك مع غياب تجهيزات الحماية ليجعل من كل تقاطع غير محمي نقطة خطر دائم، ويكفي الإشارة إلى أن أكثر من 80% من المعابر الحديدية في تونس أي ما يفوق 1100 معبر تفتقر للحواجز والإشارات الضوئية وهو ما يضع حياة المترجلين والسائقين والركاب على حد سواء أمام خطر يومي، ولعا الربط بين الحوادث الثلاثة  باجة وسوسة والجوهرة  يثبت أن الخلل ليس تقنيًا بحتاج لكنه منظومة كاملة من الإهمال والإخفاق الإداري حيث تتحوّل النقائص الفردية إلى سلسلة متصلة من المخاطر.

وفي 1 سبتمبر 2025، جنحت عربتان بمحطة جبل الجلود ما أدى إلى إصابة خمسة أشخاص وأظهر ضعف التحكم التلقائي للعربات وتقادمها إضافة إلى غياب أنظمة ذكية لمراقبة السرعة والتوازن، هذه الحادثة كشفت أيضا بوضوح أن أي عطب صغير في منظومة النقل الحديدي يمكن أن يتطور إلى تهديد مباشر للحياة بسبب غياب منظومة إنذار مبكر ومراقبة دقيقة ويؤكد هذا الحادث أن تكرار الحوادث ليس عرضيا بل هو نتيجة طبيعية لتقادم شبكة حديدية بطول 2173 كلم تعتمد في جزء كبير منها على تجهيزات متهالكة لم تُحدّث منذ عقود.

وعند العودة إلى الوراء نجد أن هذه الحوادث ليست جديدة بل استمرار لنمط تاريخي من الإهمال، ففي 2015 اصطدم قطار بشاحنة في قعفور، وأسفر عن وفاة 18 شخصا وإصابة 98 آخرين في واحدة من أكثر الكوارث الحديدية مأساوية، ومنذ ذلك الحادث وحتى 2023 تم تسجيل ما لا يقل عن 20 حادثا سنويا في المعدل ما أدى إلى أكثر من 120 قتيلا و400 جريح خلال خمس سنوات فقط، هذا التسلسل الزمني أوضح كذلك أن الأحداث الحالية امتداد لسلسلة تراكمات تجعل الحلول السطحية أو المؤقتة مجرد مسكنات لا توقف نزيف الأرواح والخسائر.

ورغم وجود إطار قانوني منظم للسلامة في النقل الحديدي تم وضعه منذ 1998  وينص على إلزامية الحواجز والإشارات وتحديد السرعة ومراقبة السائقين إلا أن الفجوة بين النصوص والتطبيق العملي تكشف عن خلل هيكلي، فغياب الرقابة الصارمة وضعف آليات المتابعة يجعل كل حادث شبه محتوم، إذ أن تقارير ديوان الحوادث المهنية لسنة 2023 صنفت حوادث النقل الحديدي كمسؤول عن 28% من الحوادث المميتة في قطاع النقل ما يضعه مباشرة بعد حوادث الطرقات، مما يوضح بشكل جلي أن النصوص القانونية بدون متابعة صارمة تبقى حبرا على ورق وأن الوقاية تحتاج إلى إرادة سياسية وإدارية حقيقية لتفعيلها.

أما على المستوى التقني والإداري، كشفت الأرقام أن أكثر من نصف العربات المستعملة تجاوزت عمرها التشغيلي وأن الصيانة الوقائية غير منتظمة وأن تجهيزات الوقاية والمراقبة تكاد تكون معدومة، ليترجم مباشرة هذا الواقع  إلى تهديد يومي لسلامة المواطن خصوصا في المناطق الداخلية التي تعتمد على القطارات في تنقلاتها، ولا يقتصر هذا الأثر الاجتماعي لهذه المنظومة المتهالكة على الأرواح المهددة فقط بل يمتد إلى تعطيل الحركة الاقتصادية وزيادة تكاليف التنقل ما يعمّق الفوارق بين الجهات ويضع المواطن في موقع الحلقة الأضعف.

ولكن، رغم كل النقاط السوداء التى تم طرحها سابقا إلا أن الحلول العملية متاحة لكنها تتطلب إرادة تنفيذية صارمة واستثمارا هيكليا من بينها تحديث الشبكة وتجديد العربات، إدماج أنظمة مراقبة وإنذار ذكية، تركيب حواجز وإشارات في جميع المعابر، وصيانة دورية وفق معايير الاتحاد الدولي للسكك الحديدية وتكثيف الدورات التدريبية للعاملين في هذا المجال، كما أن حملات التوعية المجتمعية وخاصة في المناطق القريبة من المعابر تمثل خط دفاع أول لحماية الأرواح، فإذا تم دمج هذه الحلول بإرادة سياسية واضحة وتمويل كاف يمكن تحويل كل حادث مأساوي إلى فرصة لإصلاح المنظومة وإنقاذ الأرواح.

وبالتالي، فإن هذه الإنذارات للحوادث المتكررة تكشف أن أزمة النقل الحديدي في تونس ليست طارئة ولا جزئية بل أزمة تراكمية تمس كل عناصر المنظومة من البنية التحتية، العربات، الصيانة، الرقابة، والتوعية، وتدعم ذلك الإحصائيات لتبرز أن الخسائر في الأرواح والمليارات المهدورة في الاقتصاد ليست إلا نتيجة طبيعية لهذا التراكم، لذلك فإن ضرورة الاسراع في إصلاح الوضعية لم يعد مجرد خيار وقتي أو عند وقوع الكارثة لكنه أصبح ضرورة وجودية لحماية حياة التونسيين وضمان حقهم في نقل آمن وموثوق بدل أن يبقوا رهائن قطارات تتحول يوميا إلى قنابل موقوتة على القضبان.

آخر الأخبار

النادي الإفريقي بين الأرقام والسياسة: قراءة عميقة في تقارير هيكل دخيل

النادي الإفريقي بين الأرقام والسياسة: قراءة عميقة في تقارير هيكل دخيل

القصرين تودّع عبد القادر الذيبي في موكب جنائزي مهيب

القصرين تودّع عبد القادر الذيبي في موكب جنائزي مهيب

نتنياهو تحت حصار عربي: رفض شامل لخطط التهجير ودعم متجدد لمصر

نتنياهو تحت حصار عربي: رفض شامل لخطط التهجير ودعم متجدد لمصر

موهبة جديدة تنضم لنسور قرطاج: علي جابر يختار تونس على حساب ألمانيا

موهبة جديدة تنضم لنسور قرطاج: علي جابر يختار تونس على حساب ألمانيا

غزة تحت النار: انهيار برج السوسي وتحذيرات عاجلة بالإخلاء

غزة تحت النار: انهيار برج السوسي وتحذيرات عاجلة بالإخلاء

Please publish modules in offcanvas position.