تشهد تونس اليوم تفاقما مقلقا في ظاهرة المخدرات فلم تعد معه القضية مسألة فردية أو محلية بل تحولت إلى تهديد متعدد الأبعاد للأمن القومي، الصحة العامة والنسيج الاجتماعي وتشير البيانات الرسمية إلى أن أكثر من 35٪ من المتعاطين تتراوح أعمارهم بين 15 و25 سنة ما يعكس استهداف شبكات التهريب للفئات الأكثر هشاشة اجتماعيا واقتصاديا وهو ما يثبت أن انتشار هذه الآفة القاتلة ليس خيارا فرديا بقدر ما هو نتاج سياق اجتماعي واقتصادي مركب حيث يتقاطع الفقر والبطالة والتهميش وضعف الفرص التعليمية مع سهولة الوصول إلى المواد المخدرة، ففي الأشهر التسعة الأولى من عام 2025 وحدها سجلت السلطات أكثر من 18 ألف قضية مرتبطة بالمخدرات منها أكثر من 70٪ تخص القنب الهندي المعروف بالزطلة، فيما ضبطت الجمارك 122,500 قرص مخدر و113 كلغ من القنب و13 كلغ من الكوكايين ما يعكس توسع السوق المحلي وتنوع أساليب التهريب.
وتكشف الوقائع الميدانية أن شبكات التهريب لم تعد محلية فقط بل أصبحت مرتبطة بشبكات إقليمية ودولية، ففي ميناء رادس ضبطت شحنة ضخمة تحوي 12.5 مليون قرص مخدر داخل حاويات تجارية كما تم حجز نصف طن من الكوكايين في عملية أخرى، فيما ضبط مطار تونس قرطاج 6,175 غراما من الكوكايين داخل أمتعة مسافرين، أما المعابر البرية مثل راس الجريد على الحدود الليبية، والطرق الصحراوية الجنوبية الغربية فهي منافذ رئيسية لمرور المخدرات القادمة من ليبيا والجزائر، فيما تمثل ولايات الشمال الغربي مثل جندوبة، باجة، طبرقة، والكاف مسالك تقليدية للتهريب، كما تظل الطرق البحرية عبر زوارق صغيرة قادمة من أوروبا وسيلة مستمرة للوصول إلى السواحل التونسية ما يجعل التنسيق الأمني والجمركي والاستخباراتي على المستويين الوطني والدولي ضرورة قصوى.
الإطار القانوني بدوره يحدد الرد الرسمي للدولة حيث يمثل القانون الأساسي عدد 52 لسنة 1992 المتعلق بالمخدرات الركيزة الأساسية مع تعديلات لاحقة مثل القانون عدد 39 لسنة 2017 الذي ميز بين المستهلك البسيط والمروج المنظم، إذ تتراوح عقوبات الحيازة الشخصية بين سنتين وخمس سنوات مع إمكانية استبدالها ببرامج علاجية بينما تصل عقوبات الترويج والاتجار إلى عشر سنوات أو أكثر عند تورط شبكات منظمة، هذا التوجه التشريعي يعكس محاولة التوفيق بين الردع الصارم والعلاج، وبين العقاب وحماية المجتمع.
أما على المستوى الاجتماعي، فقد أظهرت دراسات وطنية أن البطالة والفقر والتهميش خصوصا بين الشباب تتزامن مع سهولة توفر المخدرات لتتحول المدارس والجامعات إلى ساحات نشاط للمروجين، فبحسب دراسة شملت 12,500 طالب من 188 مؤسسة تعليمية بلغ معدل تجربة تعاطي المخدرات 9.2٪ ومن بينهم 1.7٪ دخلوا مرحلة الإدمان، فيما يشكل الذكور 77٪ من المتعاطين، كما بينت دراسة WHO EMRO أن 7٪ من طلاب الثانويات استهلكوا مواد مخدرة غير مشروعة مقابل 20.9٪ للتبغ و10.1٪ للكحول ما يبرز تحديات جسيمة في مجال الوقاية والتوعية.
إحصائيا، توزعت القضايا المسجلة لعام 2025 بين العاصمة تونس (2,150 قضية)، أريانة (850)، منوبة (710)، بن عروس (680)، نابل (1,020)، صفاقس (1,350)، سوسة (1,050)، المهدية (720)، قابس (600)، مدنين (490)، توزر (310)، قفصة (410)، الكاف (510)، جندوبة (430)، باجة (350)، سليانة (310)، زغوان (280)، تطاوين (260)، قبلي (240)، والكافلية (220)، ليبلغ الإجمالي الوطني نحو 13,400 قضية، منها 9,160 قضية مرتبطة بالقنب، 1,110 بالكوكايين، 2,000 بالأقراص المهلوسة، و1,130 بمواد نفسية أخرى؛ أما نسب الحجز فقد أظهرت أن ميناء رادس كان الأكثر نشاطاً (12.5 مليون قرص و500 كلغ كوكايين)، يليه ميناء حلق الوادي (8.2 مليون قرص و420 كلغ كوكايين)، ثم مطار تونس قرطاج (6,175 غ كوكايين و45 كلغ قنب)، إضافة إلى معبر راس الجريد (350 كلغ زطلة و120,000 قرص) والحدود الجزائرية الشمالية (420 كلغ زطلة و80 كلغ كوكايين).
هذا وتستلزم مواجهة هذه الظاهرة تبني حلول متكاملة تحديث قانون 52-92 للتفريق بين المستهلك والمروج وتوسيع بدائل العلاج؛ إنشاء مراكز علاج وتأهيل تغطي المناطق الريفية والشمالية؛ تطوير برامج توعية في المدارس والمجتمعات؛ تعزيز أدوات الرقابة والفحص؛ مراقبة الأدوية المنومة والصيدليات؛ وأخيرا تكثيف التعاون الإقليمي والدولي لتجفيف منابع التهريب.
في المحصلة، يتضح أن المخدرات في تونس لم تعد مجرد مسألة جنائية بل تحد متشابك يعكس تقاطع القانون والأمن والنسيج الاجتماعي والتصدي لها يستدعي رؤية شاملة توازن بين الردع الصارم والعلاج الوقائي والدعم الاجتماعي لضمان حماية الشباب وصون استقرار المجتمع والدولة.
