في مشهد يعكس إصرارا وطنيا على مواجهة العنف بكل صوره التأم المؤتمر الوطني «من الفضاء الواقعي إلى الفضاء الرقمي… متحدون ضد العنف ومن أجل تمكين النساء والفتيات» بدعم من السويد وهيئة الأمم المتحدة للمرأة وبمشاركة وزراء ودبلوماسيين وخبراء ومنظمات مجتمع مدني، وقد شكل الافتتاح الرسمي مناسبة لتأكيد أن التشريعات المتقدمة لا تكفي وحدها وأن التغيير الحقيقي يستدعي إرادة سياسية راسخة وتحولا عميقا في العقليات، حيث تم التأكيد على أن ربط الإصلاح القانوني بموارد مادية وبشرية قادرة على التنفيذ الفعلي يعد شرطا أساسيا لضمان أن تنتقل النصوص القانونية من الورق إلى الواقع خصوصا أن مراكز الإيواء في تونس بلغت 16 مركزا فقط حتى عام 2025 بطاقة إجمالية 221 سريرا وهو ما يمثل جزءا ضئيلا مقارنة بحاجيات الضحايا في مختلف الولايات.
وتواصلت أعمال المؤتمر عبر نقاشات معمقة حول الكلفة الاقتصادية للعنف، إذ تم التطرق للموضوع المساواة بين الجنسين وقد تراوحت الخسائر العالمية الناجمة عن العنف ضد النساء بين 1 و3% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا أي ما يعادل مليارات الدولارات بسبب الانقطاع عن العمل وتراجع الإنتاجية وزيادة التكاليف الصحية والقضائية، أما في السياق التونسي تم التأكيد على أن النساء العاملات في الفلاحة والصناعات التقليدية والعمل المنزلي يتعرضن لعنف اقتصادي يومي يتمثل في أجور منخفضة بشكل كبير، إذ تبلغ أحيانا أقل من نصف الحد الأدنى للأجور وغياب التغطية الاجتماعية والتحرش الجنسي المستمر في غياب آليات حماية فعالة، وتشير بيانات الخط الأخضر 1899 إلى أن 74% من حالات العنف المبلغ عنها مصدرها الزوج بينما يشير مسح المعهد الوطني للإحصاء لعام 2022 إلى أن 57.1% من النساء تعرضن لعنف من أي شكل خلال السنة السابقة للاستطلاع ما يعكس استمرار تأثير العنف الاقتصادي والاجتماعي على المشاركة الفعلية للنساء في الدورة الاقتصادية.
وانتقل النقاش إلى العنف الرقمي باعتباره الامتداد الجديد لانتهاك الحقوق حيث كشفت تقارير الصحفيات ومنصات الإعلام الرقمي عن حملات منظمة تستهدف الناشطات عبر التشويه والتحرش الجماعي فيما أبرز المختصون في قانون الإعلام الثغرات التشريعية التي تجعل مواجهة الابتزاز ونشر الصور دون إذن معقدة وصعبة الإثبات خصوصا مع غياب قانون شامل للجرائم السيبرانية، ووفق دراسة حديثة فإن في تونس تتعرض نحو 60% من النساء للعنف الرقمي خلال حياتهن بما في ذلك الابتزاز والتحرش الإلكتروني وهو ما يتجاوز بكثير ما يتم الإبلاغ عنه رسميا بسبب ضعف تكوين أحيانا، كما تمت الإشارة إلى الأثر النفسي الحاد للعنف السيبراني خاصة على المراهقات والطالبات حيث تشير الإحصائيات إلى أن 32% من ضحايا العنف النفسي أو الرقمي يعانين من اضطرابات نفسية أو توتر مستمر ما يجعل الإقصاء الرقمي امتدادا طبيعيا للإقصاء الاقتصادي والاجتماعي ويستدعي سياسات حماية أكثر صرامة ووضوحا.
وتقاطعت الشهادات مع معطيات ميدانية مقلقة فبرغم ريادة القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017، فإن 47% من النساء تعرضن خلال حياتهن لأحد أشكال العنف الجسدي أو النفسي أو الجنسي أو الاقتصادي بينما سجلت 22 جريمة قتل لنساء خلال عام 2025 فقط وتشير التقارير إلى تضاعف عدد جرائم القتل خلال السنوات الأخيرة مقارنة بعام 2018، كما أن أكثر من 70% من الضحايا يترددن في تقديم شكاوى خوفا من الوصمة أو ضغط العائلة بالإضافة إلى ضعف تسجيل قضايا العنف الرقمي مما يكرس فجوة متزايدة بين النص القانوني والواقع الميداني ويظهر الحاجة إلى تعزيز القدرة المؤسسية للتعامل مع كافة أشكال العنف.
وتبين من النقاشات أن القانون 58 على تقدمه يصطدم بعوائق عملية تحول دون تفعيله الكامل ومنها محدودية الموارد المخصصة لمراكز الإيواء والإنصات وضعف حضور الآليات الوقائية في المناطق الريفية والداخلية واستمرار بعض الممارسات التي تفضل “الصلح العائلي” على المسار القانوني إضافة إلى غياب إطار تشريعي شامل للجرائم السيبرانية يواكب التطور السريع للأدوات الرقمية وأساليب الاعتداء، وقد دفع ذلك المشاركين إلى التأكيد على ضرورة إصدار قانون خاص بالجرائم الإلكترونية سريعا وتطوير قدرات القضاء والأمن والإعلام على التعامل مع قضايا العنف الرقمي مع التركيز على تكوين مستمر وتوزيع موارد متكافئ بين المدن والمناطق الداخلية.
وفي ختام المؤتمر، تبلورت رسالة جامعة مفادها أن حماية النساء والفتيات تتطلب استراتيجيات متكاملة تشمل تخصيص ميزانية دائمة لمراكز الحماية، تطوير برامج تكوين مستمر للهياكل المكلفة بإنفاذ القانون وإطلاق حملات توعوية تستهدف الرجال والشباب لتفكيك الصور النمطية المترسخة، وقد تم التأكيد على أن الفخر بالتشريعات المتقدمة لا يكتمل إلا حين يصبح الواقع آمنا في الشارع كما في الفضاء الرقمي، مؤكدين أن حماية الكرامة الجسدية والنفسية للنساء ليست شعارا موسميا لكنها التزاما دائما إذ تشير البيانات الرسمية إلى أن توفير مراكز الإيواء ومعدات الحماية ما يزال أقل من الحاجة الفعلية للضحايا.
وبذلك تحول المؤتمر من مجرد لقاء سنوي إلى دعوة عملية للمرور من “قانون على الورق” إلى “أمان على الأرض” عبر مقاربة شاملة تقطع مع التطبيع الاجتماعي مع العنف وتكرس رؤية تستند إلى العدالة والمساواة وحق كل امرأة وفتاة في فضاء واقعي ورقمي خال من الخوف، حيث تشير الدراسات إلى أن تحسين مستوى الإبلاغ والتكوين يرفع من احتمالية تقديم الشكاوى بنسبة تتراوح بين 25 و35% ما يعكس أن مواجهة العنف تتطلب سياسات مزدوجة تتمثل أساسا في تشريعية ومؤسسية وثقافية وتعليمة قوية لأن الكرامة ليست خيارا بل أساس حياة كريمة لا تجزأ.



