بقلم: [هدى زاير]
في زمن تُغمر فيه الساحة الفنية بصخب العابر والمبتذل، اختار مهرجان قرطاج الدولي أن يبدأ دورته التاسعة والخمسين بجرأة ثقافية، قد يراها البعض مخاطرة، لكنها في العمق صيحة وفاء ونداء ذاكرة.
عرض الافتتاح، الذي حمل عنوانًا رمزيًا دقيقًا: "من قاع الخابية"، لم يكن مجرد احتفاء بالأسماء الخالدة في الأغنية التونسية، بل كان محاولة استعادة صوت الوطن من تحت ركام التناسي، وإعادة بثّ الحياة في أرشيف فنيّ طال صمته.
محمد القرفي... حين يتحول المايسترو إلى مؤرخ وجداني
اختار الموسيقار محمد القرفي أن لا يهادن الذوق السائد، بل أن يذهب إلى عمق الخزان الثقافي التونسي، ليُنقّب في "قاع الخابية" عن لآلئ موسيقية غيّبها التسويق، لكنّها لا تزال حيّة في وجدان من لم تغرّهم المسوخ الفنية الحديثة.
استحضار أعمال ترنان، التريكي، الجموسي، الرياحي، الجويني، السلّيتي، الخميسي لم يكن مجرد توثيق، بل كان فعل حبّ ومقاومة. عبر مزج صوت الماضي بأدوات الحاضر، وبصياغة أوركسترالية حملت نبض السمفونيات وحدّة الإيقاع الشعبي، رسم القرفي جسرًا موسيقيًا دقيقًا بين زمنين: أحدهما يؤمن بالجمال كرسالة، والآخر يبحث عنه كندرة.
"الحنين": العرض داخل العرض... حين يتحول الركح إلى مرآة لذاكرة الوطن
لم يكن "الحنين" مجرد فقرة في الافتتاح، بل عرضًا داخل العرض. صوت جمال المداني المجلجل، المحمّل بنبرة الحنين واللهجة الدارجة، لم يستعرض تاريخ الأغنية التونسية بقدر ما استحضرها بروح الراوي الشعبي، ذاك الذي يتحدث من قلبه لا من ورقة مكتوبة.
ومع ثنائية محرزية الطويل وحمزة الفضلاوي، بدا الجمهور وكأنه أمام مشهد صوتيّ حيّ، حيث تتقاطع أصوات الذكرى والشجن، في لحظة ديو تشبه نقطة التقاء بين جيلين، أحدهما كان هناك يوم وُلد اللحن، والآخر يحاول اليوم أن يُنقذه من الضياع.
الفن يحضر... والجمهور يتغيب
المفارقة المؤلمة في هذا الافتتاح، أن الركح كان ثريًا بالحضور الفني – شكري عمر الحناشي، الشاذلي الحاجي، محرزية الطويل، حمزة الفضلاوي – لكن المقاعد كانت تتكلم بصمتها.
تواضع الحضور الجماهيري ليس فقط علامة استفهام، بل جرس إنذار: هل أصبح الفن الأصيل نخبويًا في بلده؟ أم أن الجمهور قد تمّت تربيته على الإيقاع الخفيف إلى حد أنه فقد القدرة على الإنصات لما يتطلب انتباها داخليًا؟
"من قاع الخابية"... أكثر من عرض، أقل من ثورة
ما قدمه محمد القرفي ورفاقه هو عمل مقاومة ثقافية. لقد أدركوا أن إعادة إحياء التراث لا تعني نسخه، بل استعادته ضمن لغة العصر دون فقدان نبرته الأصلية.
ولعلّ هذا هو جوهر ما نحتاجه اليوم: لا بكاء على الأطلال، بل فتح نوافذ الحاضر ليدخل منها عبق الماضي.
قرطاج... حين يكون المهرجان حارسًا لذاكرة الفن
منذ تأسيسه، لم يكن مهرجان قرطاج مجرد برمجة ترفيهية، بل كان ولا يزال حارسًا لذاكرة الفن في تونس. وفي دورة 2025، يصرّ على أن لا يهادن السائد، بل يذهب إلى جوهر المعنى: أن يكون الفن أداة تربية ذوق، لا مجرد استهلاك.
افتتاح الدورة التاسعة والخمسين لم يركن إلى الأسماء الرائجة، بل آمن بأن من واجب المهرجانات أن تؤطّر الذوق العام لا أن تنجرّ خلفه.
في النهاية، يمكن القول إن قرطاج قد افتتح ليس فقط موسمه الصيفي، بل افتتح جرحًا في وعينا الثقافي: كم فقدنا من كنوز فنية ونحن نطارد الموجات؟ وكم نحتاج اليوم إلى شجاعة القرفي ومن معه، ليعيدوا لنا ما سقط من ذاكرتنا في قاع الخابية؟