إن العلاقة بين الواجب والحق في عقلية المواطن التونسي ليست مجرد مسألة تنظيمية أو قانونية روتينية لكنها أساس يشكل نسيج الحياة السياسية والاجتماعية برمتها ومفتاحا لفهم دينامية الدولة والمجتمع، ويتداخل في هذه العلاقة الكثير من المتغيرات النفسية والاجتماعية والثقافية التي تجعل من مسألة التوازن بينهما مسألة معقدة ومتصاعدة الأهمية خصوصا في ظل الأوضاع التي تعيشها تونس اليوم من تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية، فهل يدرك المواطن حقه فقط أم أنه يعي بعمق واجباته؟ وهل هناك وعي حقيقي بأنهما وجهان لعملة واحدة لا تنفصل لكن يتكاملان في بناء المواطنة الحقة؟
لا يمكن النظر إلى الحقوق بمعزل عن الواجبات إذ أن الحقوق لا تكتسب قيمتها إلا بوجود التزام يرافقها والواجبات ليست مجرد قيود تقيد حرية الفرد لكنه التعبير الحقيقي عن الحرية التي تسمح بتحقيق تلك الحقوق، هذا المفهوم لا يزال في كثير من أوساط المجتمع التونسي محل نقاش وربما إهمال فالمواطن يطالب بحق الحصول على تعليم جيد، صحي ملائم، عمل كريم، بيئة نظيفة، وحماية اجتماعية وسياسية، لكن ماذا عن الواجبات التي تفرضها تلك الحقوق؟ هل يدرك المواطن أنه لا يمكنه أن يحصل على تعليم جيد دون انضباط واجتهاد ومسؤولية شخصية أو أن يستفيد من نظام صحي فعال دون احترام للقواعد الصحية أو أن يحافظ على بيئة نظيفة دون الالتزام بالسلوكيات المسؤولة تجاهها؟
في مجال الصحة، تبرز هذه الأزمة بوضوح متزايد خاصة بعد الأزمات الصحية العالمية التي أثرت على العالم بأسره، صحيح أن الدستور والقوانين تضمن حق المواطن في الصحة لكن هذا الحق معرض للتآكل إذا لم يرافقه وعي عميق بالواجبات الصحية فعلى سبيل المثال كيف يمكن أن نستمر في نظام صحي قوي ومستدام إذا استمر المواطن في إهمال الإجراءات الوقائية، كالتلقيح، والنظافة الشخصية والامتناع عن التصرفات التي تزيد من انتشار الأمراض؟ هل يمكن أن نحمل الدولة وحدها المسؤولية بينما الفرد يتصرف كأنه خارج المعادلة؟ إن الانفصال بين الحق والواجب في هذا المجال يؤدي إلى إهدار موارد ضخمة وتدهور جودة الخدمات وزيادة العبء على المؤسسات الصحية وهذا بدوره يضعف حق الجميع في الصحة.
تتكرر هذه الظاهرة في التعليم، حيث يمثل الحق في التعليم حجر الأساس لبناء المستقبل لكنه أيضا يتطلب من الطالب والأسرة والمجتمع أداء واجبات واضحة لا يمكن تجاهلها، فإذا كان الحق هو فرصة التعلم فالواجب هو استغلال هذه الفرصة بجدية، واحترام النظام التعليمي والمساهمة في بيئة تعليمية سليمة ولكن كيف يمكن تفسير انتشار ظواهر مثل الغش والعنف المدرسي والتسرب؟ هل هي فقط نتيجة نقص في البنية التحتية أو في الموارد أم هي انعكاس لعقلية تقدم الحق منفصلا عن الواجب؟ وهل يمكن للمدرسة وحدها أن تعيد التوازن بينهما في ظل مجتمع يواجه أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة؟
وفي ميدان العمل، الذي يعد أحد أهم حقوق الإنسان الأساسية تبرز أسئلة أكبر وأكثر تعقيدا فحق المواطن في عمل كريم يقتضي توفير فرص عادلة وظروف عمل تحفظ الكرامة غير أن هذا الحق لا يمارس في فراغ لكنه في إطار من الواجبات التي تشمل الانضباط، التطوير المهني، والتفاعل الإيجابي مع بيئة العمل وما يثير القلق في السياق التونسي هو وجود فجوة بين هذه الحقوق والواجبات حيث تتكرر حالات الغياب وقلة الإنتاجية وعدم الالتزام، هذه الظواهر لا تعكس فقط ضعف الفرد لكنها ضعف نظام القيم الاجتماعية التي تربط بين ما يطالب به الفرد وما يلتزم به تجاه وطنه ومجتمعه، فهل يمكن أن نعول على حق في العمل إذا لم يترافق مع فهم أن العمل واجب وطني واجتماعي؟ وكيف يؤثر هذا الخلل على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في تونس؟
أما في مجال البيئة، فنحن أمام اختبار صارخ لتوازن الحقوق والواجبات فالحق في بيئة صحية ومستدامة لا يمكن فصله عن الواجب في المحافظة عليها، ومع ذلك نرى في تونس استمرار ظاهرة التلوث وإهمال الموارد الطبيعية ورمي النفايات بشكل عشوائي، فما الذي يمنع المواطن من تحمل المسؤولية البيئية؟ هل هو نقص في التربية البيئية أم ضعف في القوانين وتطبيقها؟ أم هو شعور بالعجز أمام إشكالات أكبر؟ من المؤكد أن الوعي البيئي لا يقتصر على حملات توعية بل يحتاج إلى ترسيخ ثقافة جديدة ترى في حماية البيئة واجبا شخصيا وجماعيا ووهو ما ينعكس مباشرة على حق الأجيال القادمة في حياة أفضل.
وفي ميدان الحماية الاجتماعية والأمن يشكل التفاعل بين الحقوق والواجبات ركيزة أساسية للاستقرار، فحق المواطن في الحماية من العنف والتمييز والاستغلال لا يمكن ضمانه دون احترام القوانين والانضباط الاجتماعي، ومع الأسف نشاهد في بعض الأحيان تراجعا في احترام النظام العام وتصاعدا في حالات العنف والفوضى مما يضعف من قدرة الدولة على تأمين هذا الحق، فهل المواطن الذي يطالب بالحماية يدرك أن احترامه للقانون هو أول وأهم واجب في هذا المضمار؟ وكيف يمكن تعزيز ثقافة التعايش السلمي والاحترام المتبادل وهو ما يضمن حق الجميع في الأمن؟
كل هذه القضايا تفتح آفاقا تساؤلية أعمق حول كيف يمكن بناء عقلية مواطنة متوازنة تدمج بين الحقوق والواجبات؟ هل يكفي التشريع والقانون أم أن هناك حاجة لتحول ثقافي شامل يبدأ منذ الطفولة في الأسرة والمدرسة ويتواصل عبر الإعلام والمؤسسات السياسية؟ وهل نحن قادرون على خلق مناخ مجتمعي يعيد الاعتبار للمسؤولية الفردية والجماعية كشرط لا غنى عنه لتحقيق الحقوق؟ وهل تتوفر الإرادة السياسية والمجتمعية للانتقال من عقلية الاستهلاك الحقوقي إلى عقلية المساهمة الواعية في بناء الوطن؟
وفي هذا السياق، لابد ايضا من التساؤل حول دور مؤسسات الدولة فكيف يمكن أن تلعب دورا فعالا في تعزيز هذا التوازن؟ هل عبر سياسات تعليمية واجتماعية جديدة أم عبر آليات تحفيز المواطن على أداء واجباته؟ وكيف يمكن للأحزاب السياسية والمنظمات المدنية ووسائل الإعلام أن تساهم في نشر ثقافة المواطنة الحقيقية التي تتخطى الشعارات إلى ممارسة فعلية؟
الأهم من ذلك، أن عقلية المواطن التي تتبنى حقوقا بلا واجبات أو ترفض الواجبات لا يمكن أبدا أن تساهم في بناء دولة قوية ومستقرة، فغياب التوازن بينهما يولد حالة من الفوضى تراجع الثقة بين المواطن والدولة وانتشار الإحباط واللامبالاة ومن هنا يبرز سؤال وجودي هام جدا فهل نحن أمام مسؤولية جماعية تقتضي إعادة تشكيل علاقة المواطن بوطنه على أسس جديدة تكرس مفهوم المواطنة كعلاقة متبادلة بين الحقوق والواجبات؟ وهل يمكن تحقيق ذلك في ظل واقع اقتصادي واجتماعي يتسم بالضغط والتحديات؟
في الختام، إن بناء تونس الجديدة التي يحلم بها الجميع يتطلب أكثر من مجرد نصوص دستورية وقوانين لكنه يستدعي بناء عقلية مواطنة متوازنة تتقاسم فيها الحقوق والواجبات ويتحول فيها الواجب إلى تعبير عن الحرية والمسؤولية والحق إلى ثمرة لهذا التوازن، فهل نمتلك الإرادة والقدرة على هذا التحول العميق الذي يفتح أمام تونس آفاقا جديدة من الاستقرار والازدهار؟ أم تبقى معاناة الحقوق المنفصلة عن الواجبات حلقة مفرغة تعيق تقدم المجتمع بأكمله؟ هذا هو السؤال الحقيقي الذي يفرض نفسه على كل مكونات المجتمع ويشكل مفتاحا لفهم مصير تونس ومستقبلها.