اختر لغتك

ضرورة تشريع صارم لمكافحة الشعوذة وحماية حقوق الإنسان في تونس  بعد جريمة السبيخة 

ضرورة تشريع صارم لمكافحة الشعوذة وحماية حقوق الإنسان في تونس  بعد جريمة السبيخة 

في مشهد مأساوي يندى له جبين الإنسان ويجعل العقل يقف حائرا أمام بشاعة الجريمة وغياب أبسط مظاهر الإنسانية شهدت معتمدية السبيخة بولاية القيروان حادثة فظيعة تخطت حدود الخيال والواقع حين أقدم زوج على اقتلاع عيني زوجته بواسطة شوكة أكل استجابة لتعليمات المشعوذ الذي أوهمه بوجود كنز مدفون تحت أرض منزله لا يستخرج إلا بقرابين بشرية من بينها عين امرأة من عائلته، هذه الواقعة التي تبدو وكأنها مشهد من أفلام الرعب أو أساطير الظلام ليست مجرد حادثة منفردة لكنها تجسيد صادم لأزمة عميقة تعصف بالمجتمع التونسي تتلخص في انتشار الخرافة والدجل وانهيار منظومة الوعي والقانون.

فكيف لمجتمع يسعى إلى البناء والتقدم أن يسمح بأن يتحول إلى ساحة للصراع بين العقل والجهل؟ كيف يمكن لأبناء هذا الوطن أن يقتلوا تحت سلطة أوهام ومعتقدات خرافية تجردهم من إنسانيتهم وأمنهم؟ وهل يكفي أن نعد هذه الجرائم حوادث فردية أم أنها نداء استغاثة يطالب الجميع باليقظة وإعادة النظر في أولوياتنا الاجتماعية والثقافية؟

الضحية امرأة شابة في ريعان عمرها تعرضت لعنف جسدي ونفسي وجعلي لم يعهد له مثيل فقد فقدت بصرها وانكسرت رقبتها وركبتها وهي ترقد اليوم في المستشفى الجامعي فرحات حشاد بسوسة وسط حالة من الصدمة النفسية العميقة بينما يصر والدها على إنقاذ ما يمكن إنقاذه مطالبا بتحرك عاجل من الجهات المختصة، أما الجاني فقد حاول الفرار إلى الجبال المجاورة لكنه وقع في قبضة الأمن بعد تبادل إطلاق نار واعترف أن أفعاله كانت امتثالا لتوجيهات المشعوذ  الذي لا يزال حرا يمارس نشاطه الإجرامي في أوساط مجتمعية ضعيفة تعاني من الجهل والفقر.

فهل نسأل أنفسنا كيف يمكن لمثل هذه الجرائم أن ترتكب في مجتمعنا دون أن تكون هناك آليات وقائية حقيقية؟ لماذا يتكرر هذا المشهد الدموي في عناوين الأخبار وكأننا أمام حالة مرضية مزمنة تصيب نسيجنا الاجتماعي؟ وهل يكفي الاعتراف بالقصور أم أن هناك ضرورة ملحة للثورة على هذه الحالة؟

هذه الحادثة ليست سوى رأس جبل الجليد لما يفرزه انتشار الشعوذة والدجل من جرائم وانتهاكات في ظل تقاعس واضح للدولة والمجتمع عن مواجهتها بحزم وجدية، وفي الوقت الذي تتهافت فيه وسائل الإعلام على استضافة "معالجين بالطاقة" و"رقاة شرعيين" يتحدثون عن قدرات خارقة يجد مشروع قانون تجريم الشعوذة نفسه محل استهزاء وتهميش في البرلمان مما يدل على غياب الإرادة السياسية في مواجهة هذه الظاهرة التي تهدد أمن المجتمع وسلامته النفسية، فكيف نسمح لظاهرة تدميرية كهذه أن تتعشش في مفاصل مؤسساتنا التشريعية والإعلامية؟ هل فقدنا القدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم وبين العلم والخرافة؟ وما الدور الحقيقي الذي يجب أن تلعبه الدولة في حماية مواطنيها من هذه الشرور التي تفتك بحاضرهم ومستقبلهم؟

هذا وتعد هشاشة الوعي لدى قطاعات واسعة من المواطنين وخصوصا في المناطق الداخلية الفقيرة والمهمشة أرضا خصبة لاستغلال المشعوذين الذين يبيعون الوهم والخرافة مستغلين الجهل والضعف في حين أن منظومة التربية والتعليم والإعلام ما تزال عاجزة أو مقصرة عن بناء مناعة ثقافية وفكرية تحمي المجتمع من هذا البلاء، فهل نتساءل لماذا لا يتم الاستثمار الكافي في التربية والتوعية التي تعد الخط الدفاعي الأول ضد الجهل؟ وهل يكفي أن نعتمد على برامج سطحية أم أننا بحاجة إلى خطط استراتيجية جذرية تُعيد للأجيال قيم العقل والحرية والمسؤولية؟

وهنا تكمن مسؤولية الدولة ومؤسساتها التشريعية والقضائية والاجتماعية في وضع إطار قانوني شامل يجرم كل أشكال الشعوذة والدجل ويعاقب بكل صرامة كل من يمارسها أو يروج لها بما في ذلك وسائل الإعلام والمنابر التي تساهم في نشر هذه الأفكار المغلوطة، فلا يكفي أن يعاقب الجاني فقط لكن يجب أن تضرب أذرع هذه الشبكات التي تغذيها عوامل الجهل والتهميش وتعمل على زرع الفتن والعنف في المجتمع، وهل ستظل القوانين مجرد نصوص على الورق أم ستتحول إلى أدوات فعالة تردع هذه الآفة؟ وكيف نضمن استقلالية القضاء وفاعلية الأجهزة الأمنية في متابعة هذه القضايا بلا هوادة؟

من هذا المنطلق، لابد من اعتماد أدوات ردع قانونية وإعلامية فاعلة تتمثل في إقرار قانون جنائي صارم يجرم ممارسة الشعوذة والدجل مع فرض عقوبات حبسية وغرامات مالية رادعة قد تصل إلى السجن المؤبد في الحالات التي تتسبب بالعنف أو القتل وتفعيل أجهزة الأمن والهيئات القضائية لمتابعة وضبط المشعوذين بلا هوادة وفرض رقابة مشددة على الإعلام التقليدي والرقمي لمنع استضافة أو ترويج هؤلاء، إلى جانب حجب البرامج التي تكرس الخرافة وتعزيز حملات التوعية في المناطق الأكثر هشاشة بالتعاون مع المجتمع المدني والمؤسسات الدينية، فضلا عن تحديث المناهج التعليمية لترسيخ التفكير العلمي والنقدي وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا في إطار جبهة متكاملة تحمي المجتمع من سطوة الجهل والدجل وتعيد له إنسانيته وأمنه الثقافي والاجتماعي، لكن هل نمتلك الشجاعة السياسية والثقافية لبدء هذه المعركة الشاملة؟ أم أننا سنظل نراوح مكاننا وننتظر وقوع المزيد من الكوارث التي تهز الضمير الوطني؟

كما يقع على عاتق المؤسسات الدينية الأصيلة مسؤولية محاربة البدع والخرافات والوقوف صفا واحدا ضد كل ما يهدد كيان الأسرة والمجتمع لاسيما وأن النساء هن الأكثر عرضة للانتهاك في هذه الظاهرة مما يستوجب توفير الحماية القانونية والاجتماعية لهن وضمان احترام حقوق الإنسان بكل أبعادها، فهل تدرك هذه المؤسساتحجم المسؤولية الملقاة على عاتق ؟ وهل يتوجب عليها أن تتحول من مجرد صانعة للطقوس إلى صانعة للوعي والمعرفة؟

هذا ويعد إستمرار هذه الجرائم ليس مجرد مأساة فردية إنما هو انعكاس لأزمة ثقافية وعقلية حادة تتطلب تضافر جهود جميع مؤسسات الدولة من وزارات الداخلية والتربية والصحة إلى الإعلام والمجتمع المدني لوضع حد نهائي لهذه الظاهرة قبل أن تخرج عن السيطرة وتتحول إلى كارثة حقيقية، فهل لدينا الرغبة الحقيقية في التغيير؟ وهل نحن على استعداد لتحمل تبعات مواجهة هذه الحقيقة المرة؟

وفي هذا السياق، لا يمكن للدولة أن تبقى متفرجة أو مترددة فكل تأخير في اتخاذ إجراءات صارمة يعني استمرار سقوط المزيد من الضحايا وتعمق مأزق الجهل والتخلف، فالمرأة التي فقدت بصرها وأذيت جسديا ونفسيا في السبيخة ليست مجرد ضحية جريمة فردية، لكنها رمز لمعاناة مجتمع بأكمله مع ظواهر تهدد إنسانيته وأمنه وكرامته.

وفي الختام، تطرح أمام تونس اليوم معادلة حاسمة هل ستظل بلدا يحمي كرامة الإنسان وحقوقه أم ستصبح ساحة يستغل فيها الجهل والدجل لتدمير الإنسان على يد "معلمين" مزيفين وقادة دجل؟ إن الدماء التي سالت في السبيخة تدعو اليوم إلى عدالة حقيقية وقانون صارم وعقل مستنير يقارع الخرافة ويقتلع جذورها من مجتمعنا إلى الأبد.

آخر الأخبار

لقاء دبلوماسي يؤكد متانة العلاقات بين مالي والهند: سفير مالي في تونس يلتقي سفيرة الهند لبحث سبل تعزيز التعاون الثنائي

لقاء دبلوماسي يؤكد متانة العلاقات بين مالي والهند: سفير مالي في تونس يلتقي سفيرة الهند لبحث سبل تعزيز التعاون الثنائي

ضرورة تشريع صارم لمكافحة الشعوذة وحماية حقوق الإنسان في تونس  بعد جريمة السبيخة 

ضرورة تشريع صارم لمكافحة الشعوذة وحماية حقوق الإنسان في تونس  بعد جريمة السبيخة 

فوزي البنزرتي ينسحب من الاتحاد المنستيري: "نسيوا إسمي... ومن أكون!"

فوزي البنزرتي ينسحب من الاتحاد المنستيري: "نسيوا إسمي... ومن أكون!"

قمة ودية دولية في رادس: الإفريقي والأهلي المصري... ودّ لا يُخفِي الهيبة!

قمة ودية دولية في رادس: الإفريقي والأهلي المصري... ودّ لا يُخفِي الهيبة!

ريجيكامف يعود ليطارد الترجي: شكوى رسمية إلى الفيفا بسبب المستحقات!

ريجيكامف يعود ليطارد الترجي: شكوى رسمية إلى الفيفا بسبب المستحقات!

Please publish modules in offcanvas position.